أنسي الحاج: أَنســى قبـــل أن أتذكّــــر
يرقص حولها الهواء كما ترقص هي حول القلب. ينقبض الصدر لغيابها كما ينقبض لحضورها، الأوّل خوفاً من الوقت والآخر اكتئاباً من ضآلة الوقت. يقول جسدها الطافر إلى الحياة: أنا أنسى قبل أن أتذكّر...
■ ■ ■
هل كنتِ تنامين على البحر؟ أنتِ، موج الغارق، هل تسبحين في غير زرقة النَّزَق؟ خُلِق النداء للعينين أكثر ممّا خُلق للصوت، وللجسد كلّه حين يصير كالشجرة، ملتمّاً على ذاته كحجرٍ شريد، كحجرٍ معروضٍ للصواعق، ينادي من أعماق خَرَسه، ينادي كذئبٍ يتيم، كدار تحترق، يطير صراخه من كلّ أرجائه، تحطّ عليه عصافير المساء ولا تدري أنّها غصون الصحراء. خُلق النداء ولم يُخلق معه مناداه. خُلقت الموجة تلو الموجة ولم تُخْلَقا متقابلتين. والأجنحة خُلقت لتطير قليلاً ثم تمزّقها الرياح. وبعضها يتمزّق قبل أن يطير. «عصفور، عصفور صغير، صغير، عصفور طار وحطّ. ما يستطيع عصفورٌ صغير؟». قالها شاعرٌ هُزِم لصديقٍ لم يُهْزَم. اعتذاراً لا استدراراً للشفقة.
واستدراراً للشفقة.
■ ■ ■
يا خجلي من الناس! البلاد تتساءل إنْ كانت ذاهبة إلى فتنة، وهذا شخص ينشغل بمرآته!
لكنّ حربي تستفردني وحروب الخارج مشتركة...
■ ■ ■
أريد أن أتراجع فلا أفلح إلّا في الإمعان.
قلْ كذباً ولا تقل غضباً. انكسِرْ ولا تنفجر، ما أطيب عنب الانكسار! ما أغدر الصدق! ما أغدر الصدق!
ولا يُحتمل الندم على الغضب. ولا يُمحى. بعضُ الكلام، من قوّة وَقْعه، يُرْجَع أمامه إلى الوراء...
تسكتين بلاغةً. أتخيّلكِ تقولين: «يجب أن يكفيك كونك سمحتَ لنفسكَ بأن تتوهّم!». أسمعكِ تقولين، إذا عوتبتِ على الإفصاح: «لفرطِ ما أَسْمَعُ أفكّرُ أنّي أحكي!».
أجل تَسمعين، وتختمين على الجرح بمباركةِ المهزوم.
■ ■ ■
الفتنة؟ وما من فتنةٍ تستحقّ اسمها أكثر من تلك المستيقظة في الحالمين.
■ ■ ■
... من زاويةٍ انفعاليّة، يبدو المنحرفون الوحيدين الناجين من الرتابة. تأمّل حولك، اعمل مراجعة.
ليست هذه دعوة إلى الانحراف، أكيداً، بل ضربةُ فرامل للتساؤل: أيّ حياةٍ هذه التي تدور بين دفّتي النظام؟ لا أحبّ المثليين ولا السفّاحين، ولكنّي أشعر بعطف على المصابين بشواذاتٍ لطيفة، معتبرة إجمالاً حالات نقصٍ لا حالات زيادة.
مثلاً: عُبّاد الأشياء المتعلّقة بالأشخاص (الفيتيشيست) والملامسون (فرولور) والمتلصّصون (فوايوريست). أجناسٌ جوهرها النعومة. حاجاتهم أقلّ القليل. عكس الاغتصابيين. هل هناك أشنع من الاغتصاب؟ العلاقة الطبيعيّة تكاد تكون اغتصاباً فكيف إذا كانت بالإكراه؟ الاغتصاب الأوحد الممكن القبول وأحياناً الواجب الحصول هو الاغتصاب الأدبي والفنّي: إحداثُ تجديدٍ بخرقِ التقاليد وانتهاك المقدَّسات المصطنعة. وبعد حين يتّضح أنه كان تطوراً طبيعيّاً ليس فيه من الاغتصاب غير مخالفة العادات والمجازفة بالخَلْق.
ما دمنا في نطاق الذهن فكل المعارك حلال. الدم الذي يُسفَك هنا رسومٌ متحرّكة لا أكثر. وهذا الدم العاقر هو الأخصب. وها نحن نعود إلى موّالنا: الفكر هو أبو الجسد، أبو الأرض والسماء، وكلُّ ما يدور خارجه حطبٌ في موقده.
كنتِ تنامين في قاع الرأس...
■ ■ ■
يُعطى المرءُ أن يبكي فلمَ ينوح؟ ويعطى أن ينزوي فلمَ يَظْهر؟ لا يُجيب إلّا مَن لا يُسأل ولا يَسأل إلّا مَن لا يُجاب. يُعطى الكاتب قلماً قبل أن يولد عوض أن يعطى حياةً قبل أن يكتب.
لا محلّ للبراكين بين الناس كما لا محلّ للناس بين البراكين. دعه يضحك هذا الجار، لن تراه بعد اليوم. أنت أيضاً تضحك وكثيراً تضحك فلمَ تنشر هذا الجوّ القاتم؟ يعطى الكاتب أن يسلّي فلمَ يُصلّي؟
يُعطى الجمال أن يُحيي فلمَ يُميت!؟
■ ■ ■
لكلّ دورٍ من أدوارها قناع، وأخطر الأقنعة عيناها: صافيتان صافيتان، ولكنْ مهما انفتحتا لن تخبّرا عمّا يدور في غرفةٍ بين حناياها للعواصف السريّة، عينان مهما بادلتاك النظر تظلّان محميّتين بغمامٍ لا محلّ لكَ معه على كلّ حال.
يهدر رأسها بأحلامٍ ترمي القمح للطيور، طيور لست أنت بينها على كلّ حال.
يشعّ منها الإغراء كما يتدفّق الحليب من ثدي المرضع، إغراءٌ مُبهَم لا هدف له، إغراءٌ بلا إرادة، بلا منافسة، إغراءٌ لا يصطاد ولا يُصاد. لا تستلطف مَن يتغزّل بها وتُغازل مَن ليس بحاجة. تَعْبر بالقرب من قَدَرها ولا تنتبه: تمضي في الطيش السعيد.
تَهْرب من مواجهة الفشل وتتفادى النجاح. تجد نفسك أمامها غلاماً وعجوزاً، أحمق ويائساً، تجعلك دون قصد منها مجنون حالك كنحلةٍ وقعتْ في مصيدةِ الكوب الفارغ تَخْبط فيه خَبْطَ اختناق.
ليس هناك أقلّ منها اكتراثاً وليس هناك أكثر منها شَغَفاً. وَحْشَةٌ ويمامة. وسيفترسك الندم يومَ تكتشف أنّكَ لم تفهم شيئاً ولا كان لكَ وجودٌ في السياق.
وها هي تدخل من جديد في فصل التحوّل. وسيكون لها في جديدها قناعٌ كما سيكون لها سفور. وستبقى دائماً تُضلّل حُرّاسها.
يُعطى الكائن الحرّ أن يُحرّر الآخرين معه، فلمَ يجعله القَدَر يخنقهم؟!
■ ■ ■
يرقص حولها الهواء كما ترقص هي حول القلب. يقول جسدها الطافر إلى الحياة: أنا أَنسى قبل أن أتذكّر...
■ فيروز وزياد
كان عاصي الرحباني مسكوناً بحالات التغيير ثم أصبح مسكوناً بحالات التأليف. زياد بدأ بالتأليف وانتقل إلى التغيير واستقرّ على الاثنين معاً يتناوبان ويتداخلان ويتصارعان كصديقين لدودين.
في جميع الحالات فيروز هي فيروز. فيروز البيروتيّة أمس كانت زياديّة جديدة. وزياد الفيروزي كان زياداً جديداً أضاف الحنان إلى التمرّد والحنين إلى الحداثة وبُعداً كان مجهولاً إلى صوت فيروز.
أمّ وابنها. أمّ وأبوها. أمّ وتتمّة أقدارها.
تَفَيْرَزَ الجميع مع فيروز، من الأخوين رحباني إلى فيلمون وهبه ومحمد عبد الوهاب. بل ما قبل الأخوين رحباني. زياد بدوره تَفَيْرَز (تدريجيّاً) ولكن فيروز هي أيضاً تَزَيْدَنَتْ، وليس تدريجيّاً. عادت مع الابن إلى الصِبا التجريبي الذي كان لها مع الأخوين. الابن العاصي الأصيل المتعامل الوحيد مع الصوت الساحر بدون أن يدع السحر يستحوذ على لبّه.
مهما قيل في العائلة المالكة يظلّ ناقصاً. هم مسكونون بأقدارهم ونحن مسكونون بهم.
--------------------------------------------------------------------------------
من فكتور هوغو
«لا الضباب ولا علْم الجَبْر يصمدان، في باطن الأعداد أو السموات، لثبات العيون الهادئ العميق».
■ ■ ■
«الشيطان، هذا الصيّاد الدخيل في غابةِ الله».
■ ■ ■
(عن الأيّام الأولى للخليقة):
«لم تكن لطخةٌ على شيءٍ ولا تجعيدة
تلك الأيام النقيّة! ما كان نزفٌ إطلاقاً تحت الظفْر أو تحت الأسنان
والبهيمة السعيدةُ كانت هي البراءة في طوافها
الشرّ لم يكن قد ارتدى شيئاً من سرّه
لا في الحيّة ولا في النسر ولا في الفهد،
والهاوية المفتوحة في الحيوان المقدّس
كانت بلا ظلال، لأنها مضاءة إلى أعماقها.
الجبل كان شابّاً والموجة عذراء (...)
ولا شيء كان صغيراً مع أن كلّ شيءٍ كان طفلاً (...)
الطبيعة كانت تضحك، ساذجة وهائلة.
المدى يلعب صائحاً كالطفل الوليد.
وكان الفجر هو نظرةُ الشمسِ المدهوشة».
■ ■ ■
«كلّ محبوبٍ يغدو سماويّاً».
■ ■ ■
«الأرض تُطْلع إلى ما لا نهاية
الأزهارَ القصيرة العمر
والأزهارُ لا تعاتب اللّه أبداً».
■ ■ ■
«حريّة الحبّ لا تقلّ قداسةً عن حريّة التفكير.
ما يسمّونه اليوم زنى، مشابه تماماً لما كانوا بالأمس يسمّونه هرطقة».
■ ■ ■
«الصلاةُ شقيقةُ الحبّ المرتجفة».
■ ■ ■
«حياتي حياتكَ، حياتك حياتي، تعيش ما أعيش. المصير واحد. خذْ هذه المرآة وانظر نفسك فيها (...) واأسفاه! حين أحدّثك عن نفسي، أحدّثك عن نفسك. كيف لا تُحسّ ذلك؟ آه منكَ أيّها المجنون، أنت مَن يظنّ أنّي لستُ أنت!».
■ ■ ■
«أيّتها الشعوب! أصغي إلى الشاعر!
أصغي إلى الحالم المقدَّس!
في ليلكم، الليل الذي كان سيكون مطبقاً تماماً لولاه،
وحده جبينه مضاء (...)
هوذا رجل، ورجل رقيق كامرأة
يخاطب اللهُ روحَهُ بصوتٍ خفيض
كما يخاطب الموجَ والغابات».
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد