أثر المرجع الحيّ في التخييل الفني الروائي
الرواية العربية فن حديث، لا تقاليد له سابقة، أو موروثة، في تراثنا العربي الأدبي. ذلك أنه لئن كان للعرب تراث سردي، وكان بإمكان الرواية العربية أن تفيد منه، فإن علينا، كباحثين ونقاد، أن نميّز بين الفنون السردية التي منها الفن الروائي.
إن لفنيّة السرد الروائي الحديث في تشكله عالماً روائياً، قواعد وتقنيات تخصُّه وتميزه بصفته الروائية، وتختلف عن فنية تشكّل عالم المقامات مثلاً، أو عن قواعد وتقنيات تخصُّ، وتميِّز بنية الحكايات الشعبية، دون أن يعني ذلك قطيعة بين فن الرواية وهذه الفنون السردية الأخرى، أو عدم إمكانية إفادة الرواية منها.
هكذا مالت الرواية العربية، في المراحل الأولى من تاريخ نشأتها، إلى محاكاة الرواية الغربية، أسلوباً وقواعد بناء. وبدت بذلك قاصرة عن بناء عالم متخيّل قادر، فنياً، على قول حكايتها.
وهكذا كان السؤال القلق الذي طرحه، في ما بعد، عدد من الروائيين العرب، المبدعين، على أنفسهم:
كيف أقول.
لئن كان هذا السؤال يعني التحرر من التقليد والمحاكاة، فإنه يشير في العمق منه إلى أن لنا حكايتنا، وأن علينا أن نقولها وأن قولها لا يستقيم إلا بفنيِّ له.
إن كيف أقول تعني كيف نُبدع رواية تقول حكايات نعيش أحداثها ونعاني واقعها. رواية تستجيب لذاكرتنا وتاريخنا وما تزخر به هذه الذاكرة وينطوي عليه هذا التاريخ.
ولئن كان هذا السؤال، ««كيف أقول»، يحيل على مرجعيّ خاص، فإنه لا ينفي، ولا يمكنه أن ينفي طابعاً عاماً للفنون، أو مشتركاً في ما بينها. تتشارك الفنون. ومنها الرواية طبعاً، في التجربة بصفتها الإنسانية، وعلى مستوى فنيّتها، وعلى مدى تاريخها. وهو تشارك غير مبتوت الصلة بهذا المرجعي، أو بهذه التجربة الحياتيّة الخاصة، ومن حيث هي تجربة لها مسارها المتوتِّر أبداً، غير النقيّ أو المعزول. إنه مسارها التاريخي الممهور بزمن المعيش وأمكنته وأناسه، وبتقاليد وهويّات وعادات تسم حياة الناس وتشكّل، بكل ذلك، مادة السرد وعالم المسرود، الحكاية، أو هذا المختزن في الذاكرة.
[ [ [
أن تكون الرواية العربية فناً لا تقاليد له سابقة أو موروثة، حملني على اعتماد النصوص في بحثي، أقرأها بهدف بلورة مفهوم نظري هو جواب عن سؤال طرحته حول أثر المرجع الحي في بنية الشكل الفنية ودلالات هذه البنية الروائية، معتمدة مفاهيم نقدية تطلق القراءة ولا تخضعها لها.
تؤكد هذه المفاهيم النقدية على العلاقة، غير المباشرة بين الأدبي والمرجعي عن طريق الإحالة. يحيل المقروء لدى القراءة على مرجعي هو، في حال الرواية العربية، المعيش الذي شكّل الحافز الأساس لكتابة الرواية، أو الذي استدعت حكايته، كما أوضحت في أكثر من دراسة في هذا الكتاب، فناً يرويه ولا ينقله، أي فناً يسمح متخيّله بقول غير المرئي، المختلف، أو بقول ما لا يُسمح بقوله. فن يضيء ويستشرف ويمارس، ضمناً، النقد دون أن يكون نقداً، يفلسف الحياة دون أن يكون فلسفة، ويعيد النظر في التاريخ، تاريخنا، دون أن يكون تاريخاً.
هي الرواية التي بدت فناً يستجيب لكل ذلك، لكل ما نحن بحاجة إلى قوله، والتي أقبل على محاولة فنِّها التخييلي أدباء عرب مع بدايات النهضة والانتقال إلى حياة مدينية مربكة، يتجاور فيها القديم والحديث بكل مكوِّناته وظواهره التي تخصُّ الثقافة والعمارة واللباس والسلوك، ومجمل نظم العيش وتقاليده.
لقد كانت الكتابة الروائية العربية تواجه قلقاً والتباساً لا فقط على مستوى المسرود، أو الحكاية وبما هي حكاية المعيش في الواقع (في نهضته وحروبه وهزائمه، في ما يُبنى ويُهدم)، بل أيضاً على مستوى المتخيّل الذي عانى، فنياً، قلق المتغيّر والمختلف، قلق الإفادة من تجربة الآخر دون السقوط في التقليد والمحاكاة، والعجز عن قول ما تودُّ الكتابة قوله.
[ [ [
ليس ما قدمته في هذا الكتاب بحثاً في الواقع المرجعي، أو في المدلول، أو في المعاني، أو في الموضوع، أو في الحكاية... بل هو بحث عن الأثر. أثر الواقع المعيش، وبصفته المرجعية، في تشكُّل بنية عالم الرواية، أي في كيفية تعالق مكوِّنات بنية عالم الرواية، وفي التوظيف الدلالي لها... كالتعالق، مثلاً، بين الشخصيات باعتبار سلوكاتها، ومنطوقاتها، وانتماءاتها، أو هوياتها المجتمعية، وأثر هذا الواقع المعيش في الدينامية السردية، أو في ما يخصُّ زمن السرد وسياقاته... آخذة بعين الاعتبار، في بحثي هذا، المنظور التأليفي للعمل الروائي.
[ [ [
ولقد أتاحت لي الأعمال الروائية اللبنانية المنتَجة في زمن الحرب، أو التي تحكي حكاية لهذه الحرب، بحثاً يستكشف أثر المرجع الحي في بنية عالم الرواية. فهي، أي هذه الروايات، تعبِّر عن جديد في الكتابة الروائية يتمثل في نمط البناء، في الصياغة اللغوية، وبشكل خاص في بنية الشخصية الروائية، كما في التعامل مع الزمن. ثمة منظور تأليفي لهذه الروايات يختلف عن ذاك الذي انبنت به روايات في المرحلة السابقة على الحرب. منظور لا يستأثر بالمعرفة، أو بالرؤية والموقف، بل يدعو إلى المشاركة في ما تقوله الرواية، أو تحكيه عن هذه الحرب.
[ [ [
إن المرتكز النظري القائم على العلاقة بين المتخيّل الروائي والمرجعي الحي الذي يحيل عليه هذا المتخيّل، خوّلني كشف معنى السلطة الذكورية وحقيقتها في أكثر من عمل روائي. كما أتاح لي تبيان دلالات العلاقة بين الذكورة والأنوثة، وبين الذكورة والعنف الذي يؤوّلُه عنف النظم وتراتب العلاقات المجتمعية فيه والتي يتولاها الرجل ويكرِّسها.
كما خوّلني، هذا المرتكز النظري، أن أرى أن الثقافة العربية، بما هي ثقافة المتداول والمهمَّش، قادرة على أن توفر إمكانية لصياغة خطاب روائي عربي لا تعيقه مقولة باختين في نظرية الرواية التي ربطت بين نشوء الرواية والحقل الثقافي الذي حقق ثورته المعرفية.
كذلك أمكنني أن أقدم فهماً لتجاوز الرواية العربية، مؤخراً، للتجريب الذي مارسته قبلاً. وأن أعيد الاعتبار إلى الكلاسيكية السردية التي حال بعض الروائيين العرب، الجدد، إلى توسلها، ساعين إلى حدثنتها بما يتلاءم ومنظورهم لرواية عربية لا تغرق في السرد المابعد حداثي، الذي يستند إلى مفهوم المفارقة الجذرية بين السرد/ اللغة وبين المسرود/ الواقع المرجعي؛ أو الذي يُغرِّب الدال الروائي عن حمولات المدلول وما يحيل عليه. وهو، أي هذا التغريب، تغريب، في الآن نفسه، للنص وللقارئ عن انتمائه، كما عن همومه وأسئلته المطروحة على حياته ومصيره.
ولعل السرد بضمير الـ أنا، أو كتابة السيرة الذاتية الروائية، هو، كما أوضحت في هذا الكتاب، بمثابة تأكيد على هوية المروي وبما هو، أي هذا المروي، ينتمي إلى زمان ومكان، أو إلى مجتمع له تاريخه.
كذلك التوثيق الذي أدخلته بعض الروايات العربية في سردها، فبدا بمثابة رد على هذا الجنوح الـ مابعد حداثي الذي رهن الحقيقي بالدال السردي على حساب المدلول، مغامراً بالسقوط في أسر الدال اللفظي، أي بإنشاء خطاب يؤكد ويكرِّس اعتبار اللغة مجرّد لعب مبتوت الصلة بمرجعيات خارجية قائمة في الواقع، في ما يعيشه الإنسان ويعانيه في تاريخه.
[ [ [
ردٌّ غير مباشر هو التوثيق على الفورة المابعد حداثية الجديدة التي سببها، كما يقول بودريار: «بتنا مطالبين بنسيان أي جدل حول مسائل كالواقع أو الحقيقة». وقد تمثَّل هذا الرد، المفترض من قبلي، في أكثر من رواية عربية أفردت لبعضها مكانة في هذا الكتاب.
[ [ [
كتبت هذه الدراسات على أساس المنظور النقدي الذي ارتكزت عليه، أو الهم التنظيري الساعي إلى بلورة مفهوم يخص بنية المتخيّل وتقنيّات تشكله العلائقية باعتبار علاقة هذا المتخيّل بالمرجعي الحي، المعيش.
ويمكنني بكثير من الإيجاز أن أقول إن مفهوم المرجع الذي يندرج في منظومة التنظيرات المنسوبة إلى علم اجتماع الأدب، وإن إناطتي التأليف بمؤلف يعيش في مجتمع، وإناطتي إحالة النصِّي (المتخيّل) على المرجعي (الواقع، المعيش..) بقارئ، سمحت لي، منهجيّاً، بأن أرى، أو أقرأ، اثر المرجع الحي في بنية عالم الرواية المتخيّل، فنياً ودلالياً.
([) مقدمة كتاب جديد للكاتبة عيد بعنوان «الرواية العربية، المتخيّل وبنيته الفنية»، يصدر قريباً عن دار الفارابي في بيروت.
يمنى العيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد