القبلة في السينما
في الغرب، وفي العالم الأكثر تحضراً وانفتاحاً وتسامحاً، حرّروا القبلة منذ زمن بعيد. منذ العام التالي لولادة السينما، أمام أعين مشاهدين مذهولين حيال ما يرونه، تبادل ماي ايرفين وجون رايس، القبلة التي يُعتقد ويقال انها الأولى في تاريخ السينما. كان شعر ايرفين مرفوعاً على طريقة الشينيون، وكان لباسها الكورسيه ذو الأزرار مقفلاً حتى اعلى عنقها. أما رايس فكان نموذجاً عصرياً للرجل الماتشو ذي الشاربين العريضين. كان سبق لهما ان تشاركا تمثيل مسرحية كوميدية على خشبة برودواي اسمها "الأرملة جونز" حيث تلامست شفاههما للمرة الأولى. ثم تكرر ذلك خلال الثواني السبع والاربعين التي استغرقتها قبلتهما المصورة. كل اختراع بشري يحتاج الى رائد. هذان كانا رائدا القبلة على الشاشة.
في أوروبا التي كانت تتهيأ لدخول قرن جديد ومن خلاله الى الحرب (رمز آخر لعدم التسامح)، راح الصراع على هذه القبلة يحتدم. من جانب، كان هناك المحافظون، ومن آخر انصار الأفكار المستحدثة التي ساهم الأدب والموسيقى والفنون الأخرى في الترويج لها لقرون وقرون. اذا كانت نسبة الحرية في البلدان تقاس بالنحو الذي يتعاملون فيه مع المرأة، فمنع القبلة من أن تتجسد على الشاشة يشير الى حجم التخلف الموجود في المجتمع. الى اليوم، لا يزال الحبيب يقبّل حبيبته على الجبين أو على احد الخدين في سينمات بلدان كثيرة. ثم يخرج عليك السينمائي ويقول لك كيف يمكنك ان تصنع فيلماً ويعطيك الدروس الكبيرة. القبلة بين اثنين على الشاشة لم تعد شيئاً اليوم، لكن بعضهم يعتبرها اباحية وخروجاً على تقاليد المجتمع وأعرافه، وكأن التقاليد والأعراف تلك يجب أن تبقى ثابتة وأبدية. القبلة بورنوغرافيا بالنسبة الى بعضهم الذين يعتبرون ان ما يدور بين حبيبين يجب ان يبقى حبيس غرف النوم. عبثاً نردّ أن الكاميرا تتسلل أيضاً الى أماكن من المفترض انها ليست موجودة. ووظيفتها ليس دائماً أن تسترق النظر بل أن تحكي. لا حكاية مصورة من دون كاميرا. أشعر نفسي غبياً وأنا أقول هذا الكلام!
قطع الغرب، كما في مجالات أخرى، أشواطاً كبيرة في هذا المجال. من منا لا يذكر "سينما باراديزو" والمطران الرقيب الذي يدقّ الجرس الذي يحمله في يده انذاراً، في كل مرة كان اثنان يتبادلان قبلة على الشاشة؟ عندما نرى هذا المشهد اليوم، لا بدّ ان نضحك. هنا نتحدث عن اربعينات القرن الفائت، عندما كانت كنيسة صقلية المتعصبة تمارس الغطرسة على الناس. السينما العربية في معظمها، بالاضافة الى المسلسلات، اكثر تعصباً من الرقيب الصقلي، في التعامل مع القبلة، ومع ذلك فهو يقبل زوجته عندما يعود الى المنزل.
النفاق لا يصنع سينما. اخفاء الرأس في الرمال لا يصنع سينما. الانتقائية لا تصنع سينما. باتت القبلة اليوم من الأساسيات في الكثير من الأفلام، سواء أكان وجودها مبرراً أم لا، وسواء أكانت لخدمة سياق الحوادث أم لإثارة رغبات المشاهد الدفينة وصولاً الى حضّه على التماهي مع من يتبادلون هذه القبلات العادية أحياناً، والأسطورية في أحايين كثيرة. مع بلوغ السينما مرحلة متقدمة، باتت القبلة ومعها العديد من الممنوعات التي كان ينظر اليها حرّاس الأخلاق الحميدة بأنها تفسد المجتمع، من مقدسات هذا الفنّ. لكن الطريق للوصول الى الحالة التي اصبح الغرب عليها اليوم، لم تسلم من العقبات والأخطار والشتائم والتهديدات والابتزاز. وأول من كان عرضة للمنحى الأخلاقي المنافق الذي تراجع اليوم الى حدّ كبير، هما الثنائي ايرفين/ رايس، رائدا القبلة على الشاشة.
كانت القبلة الدانماركية، في السنوات الأولى من القرن الفائت، اكثر القبلات عرضة للاتهام بسبب طابعها الشهواني المتمادي. كانت القبلات الآتية من سينما تلك البلاد أطول من غيرها، وابطالها يهيجون شريكاتهم بمجرد قبلة على الشفتين المسحوقتين والمتورمتين، وذلك من كثرة الولع والهيجان والاثارة عند الاناث، ومن كثرة حماستهن لما ينتظرن من جنس بعد تلك القبلة. وكان بعض من الصحافة المتخلفة يدق ناقوس الخطر في كل مرة يرى فيها قبلات تخرج على اطار "الحياء". في العشرينات، كتب أحدهم يقول: "لقد تراجعت قيمة القبلة. في الامس القريب، كانت نساؤنا الواعيات يتذمرن من أن السينما جعلت الممثلات يقبلن فعلاً ولا يلجأن الى تقنية القبلة الزائفة. اليوم، باتت السينما تمنحهن دروساً في فنّ التقبيل (...). وتالياً عرفت القبلة انحطاطاً واضحاً وفقدت تأثيرها وكأنما صارت توازي كمشة يد خجولة". لكن كل هذه الهجمة ضد القبلة التي قادها محافظون، لم تستطع الحدّ من تطورها، فباتت القبلة المصوّرة الوسيلة الفضلى للتصدي للعقلية المحافظة التي كانت تهيمن في بعض المجتمعات. الممثلة بولا نيغري، في اواخر سنوات السينما الصامتة، صرحت بأن القبلة متعة ديموقراطية ينبغي أن تكون في تصرف الجميع. يمكنها أن تكون بتولة وخجولة. متعجرفة وعذبة. حارقة وشهوانية. يمكن روميو أن يغطي جسد حبيبته جولييت بقبلات سريعة، سريعة الى حدّ أنه يصعب النظر اليها.
لكن المعايير الأخلاقية تتطور وتشهد تبديلاً وتحسناً. وهذا لحسن حظنا نحن السينيفيليين الذين لا نستطيع أن نستذكر، من ذاكرتنا المنكوبة المليئة بمشاهد الحروب والكراهية والضغينة والجهل والتعصب، بضع دزينات من الأفلام الاّ من خلال القبلات المتبادلة بين بطلين. القبلة، أعني بها تلك الصريحة والفموية حيث حديث حميمي بين لسانين (في مرحلة أكثر تقدماً)، هي واحدة من اسمى أنواع البوح والاعتراف والودّ. وهي، أولاً وأخيراً، احدى خاصيات الفن السابع. الفنّ التشكيلي أهملها كثيراً. لم تسترع القبلة انتباه اباطرة الرسم في أوروبا. أما القبلة في الموسيقى والأدب والشعر والنحت والفنون الأخرى، فمتفاوتة الحضور ولا تملك القدرة ذاتها والتأثير عينه، لدى المتلقي، لأسباب لا حاجة الى الغوص فيها، كونها واضحة وصريحة: الصورة المتحركة هي محرك العقول والشهوات في زمن الحداثة.
هوفيك حبشيان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد