حنا مينه: الحدث هو الرواية!
أن نعيش الحياة لأنها حياتنا، فذلك هو قانون الوجود. هذا ينطبق على الناس، كل الناس،.
فهم يولدون، يكبرون، يشيخون، ثم ينتهون بالموت، وخلال هذه الحياة، قصيرة كانت أم طويلة، تتحصل للإنسان تجارب، وفق القدر الذي يجعله يعيش على هذا النحو، وليس على النحو الآخر، إنما الاستكانة للعيش الرتيب شيء، والمغامرة، التي هي بنت الجسارة، شيء آخر، فبعضهم يقنع من دنياه بأن يبقى حيث ولد، في دائرة ضيقة، وبعضهم الآخر، مدفوعين برغبة البحث والكشف، يخرجون من الدائرة الضيقة إلى دوائر أوسع فأوسع، وبذلك تتحصل لهم تجارب، ومعارف، ليست للقعدة، الذين يؤثرون الراحة.
أن الخروج من الدائرة الضيقة للعيش، إلى الدوائر الأوسع، قد يكون فرضاً، وهذا هو حال الذين فرضت الظروف عليهم أن يعيشوا حيوات عدة، وقد تكون قصداً، وهذا حال المغامرين، في سبيل الرزق، أو الاطلاع، أو الرافضين لقاعدة «القناعة كنز لايفنى»، لأن ثمة كنوزاً أخرى، أكثر غنى، وأكبر متعة، تنتظر من يبحث عنها.
الروائيون، في الأغلب الأعم، يخرجون، أو يجب أن يخرجوا، من الدائرة الضيقة إلى الدوائر الواسعة، فرضاً أو قصداً، ففي هذا الخروج وحده، ومهما تكن الدوافع إليه، يواجهون الحياة بلا خوف، يجعلونها تخاف منهم، وفي مضطرب حياتهم، إلى أن تستقر على حال من الثبات، يحصلون على التجارب، على الخبرات، ويعانون فيها معاناة ما، خفيفة أو شديدة، وكلها، في المآل، تنفعهم في عملهم الروائي، مادامت التجارب أحداثاً، ومادامت الرواية تنبني، أصلاً على الحدث، ولاخير، في رأيي، للأحداث الذهنية، وكل الخير في الأحداث الواقعية، ذات المعاناة الشديدة!
يلاحظ أدوين موير، في كتابه «بناء الرواية» «أن مايفتننا في رواية الحدث، هو المتعة المطلقة بالأحداث الحية. ففي رواية الحدث يمكن أن يكون للحداثة الصغيرة نتائج كبيرة غير متوقعة، تتفرع عنها فروع متكاثرة، تزيد على الحصر، وتنسج نسيجاً معقداً يحل، بعد ذلك، بطريقة غاية في البراعة»
من جهة أخرى، فإن الرواية، بذاتها، استكشاف، ولندع روايات الخيال العلمي جانباً، فإن الرواية، بأي شكل كتبت، هي هدم وبناء، هدم لعالم قائم، وبناء لعالم جديد، لم يقم بعد، وهذا ماعناه ميخائيل باختين في كتاب «الملحمة والرواية» حين قال: الرواية تعبر، أكثر من غيرها، عن النزعات القائمة لبناء العالم الجديد، وقد سبقت التطور المستقبلي للأدب في مجالات كثيرة، ومازالت تسبقه حتى اليوم».
الرواية، إذاً، سبقت الأدب في اكتشافها تطلعات القراء للعالم الجديد، وهذا مطلوب منها دون سواها، لأنها، وحدها من تنشئ عالما متكاملاً، من خلال حياة كاملة تتوفر مع الحدث وتفرعاته، وفي هذا السبق، يترتب على الرواية التي تنقض عالماً قديماً، أن تبني، من خلال عمارتها، عالماً جديداً، والمهمة، في هذا التطور المستقبلي غير المسبوق، دقيقة وشاقة، دقيقة لأنها تبني، بالكلمات بدل الحجارة، العالم الجديد المنشود، وشاقة لأن البناء، في هندسيته التي تحتاج إلى معرفة، ثقافة، تجربة، حدث، لاتستقيم، دائماً، من المحاولة الأولى، ولايمكن للروائي أن يسيطر على مدماكها إلا بصعوبة بالغة. ولنذكر، في هذا المجال، العمارات الروائية الضخمة، التي شيدها، بعبقرية نادرة، كل من تولستوي وديستويفسكي، فجاء الروائيون، من بعدهما يجهدون، من باب التأثر، في اقتفاء أثرهما، دون أن تستطيع، إلا قلة، أن توفق في بناء عمارات روائية أقل، تختلف شكلاً ومضموناً.
لايتوقف، طبعاً، العذاب المضني، في إيقاظ الحدث الهاجع في بئر الذاكرة، ولا في تمديد، وتطوير هذا الحدث، من خلال إنماء السياق، أو في كتابة الرواية كلها، بل في نجاح هذه الرواية المكتوبة، فكثير من المشاهد، والصور، واستطرادات السرد، وبناء الشخصيات، كثيراً مايكون بحاجة إلى إعادة نظر، أما بسبب كتابته بأقل مايجب من التأني، أو بأكثر ما يجب من التأني، فالبطء في العمل يسيء إليه، والعجلة تسيء كذلك إليه، وتأتي مشكلة الفتور المملة، ومشكلة الحماسة الملهوجة، وكلاهما من معايب القص، فالحماسة تتولد، أحياناً كثيرة، من انفعال زائد، حين يكون عليك أن تضع قدميك في ماء بارد، والفتور ينشأ من فقدان الشهية، أو الرغبة، في الكتابة، في حين يكون عليك، وفق متطلبات النص، أن تتقد حماسة، وقد عزا الجاحظ، البشرة البيضاء إلى تمام النضج في الأرحام، كما عزا البشرة الإفريقية السوداء، إلى فرط النضج في الأرحام، بسبب الحر الشديد، وهنا اختلال توازن كالذي ذكرناه بين الفتور والحماسة، خلال الخلق الروائي، ويحدث، حتى في الرواية الواحدة، أن يكون هناك إفراط في الوصف، أو إفراد في التفاصيل، وهذا يبعث على الملل، والإقلال منهما يجعل المشهد، أو المشاهد، تفتقر إلى ماأسميه «إشباع المواقف»، والأفضل أن يكون هناك توازن دقيق، وكذلك حيطة إلى درجة الحذر، من كاتب لديه تجارب كثيرة، فتغريه طرافتها، دون انتباه، أو بغير معلمية، بالاستزادة فيقحم، في رواية واحدة، أكثر من تجربة، أكثر من حدث له الأولوية بالخط الروائي الأساس، أو ترهبه مأساوية، أو لاأدبية، هذه الواقعة أو تلك، فيمتنع عن إيرادها حيث تقتضي الضرورة ذلك، فقلة التجارب مضرة مثل كثرتها، وهذا ماينبغي أخذه في الحسبان، والاحتراس منه في كل رواية، وحتى في كل قصة.
يضاف إلى ذلك كله، موضوع النظر إلى الواقع الاجتماعي المتضمن في الرواية، وهل هو في حالة تكامل وانسجام تام، أم في حالة تناقض وصراع، أم حالة تأزم؟ وماهي جوانب ومظاهر هذا الواقع الذي نكتب عنه؟ وماهي علاقة الرواية بالمجتمع؟
جواباً على هذه الأسئلة، وفي حدود رأيي، أن على الروائي، حيث يتناول المجتمع، أن ينظر إليه نظرة تحاول أن تكون واعية بالدوافع الاقتصادية- المالية، التي تشكل هذا الواقع الاجتماعي، إنما بغير ميكانيكية، فالدوافع الذاتية، المادية، الثقافية، النفسية، وخاصة الدوافع التاريخية، لها أثرها، دورها، فاعليتها في تشكل المجتمعات.
ومع أنني لست باحثاً اجتماعياً بأي معيار، فإن تطور مجتمع معين، في ظرف سياسي معين، وظرف تاريخي معين، لابد من أن يدرسه الكاتب محاولاً فهمه، انطلاقاً من أن الكاتب يستمد من المجتمع، ويصدر عنه في كل مايكتب.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد