غسان الرفاعي: .ثقـافــة المـوز وثقــافــة النبيــذ
-1-يداهمني، وأنا أشارك في الندوات والحلقات، والطاولات المستديرة التي يعلن بأنها (تعالج الموضوعات الساخنة التي تستأثر باهتمام الرأي العام).
شعوران متناقضان: شعور بالخواء النفسي، يفقدني القدرة على التمييز بين الخير والشر، الحق والباطل، ويسلمني إلى عطالة ذهنية تفصلني عن نفسي والعالم الخارجي معاً، وشعور بالامتلاء النفسي، يتوهج فيه دماغي توهجاً غير مألوف ويضاء كل شيء أمامي، فإذا بالعالم ينشطر إلى أسود وأبيض، في الحالة الأولى أخلد إلى الصمت في لامبالاة مكتفياً بتصفح وجوه المشاركين أو الحملقة في السقف، وفي الحالة الثانية، أتدخل في عنف وأتخذ موقفاً مبدئياً واضحاً، وقد أستعذب النضال وحتى الشهادة رافضاً كل مصالحة أو تسوية.
داهمني الامتلاء بعد الاستماع إلى مداخلة متفجرة ألقاها (إيفاتسيو رامونيه) مدير تحرير (لوموند ديبلو ماتيك) قال فيها: (ما يقلقني اليوم أكثر من أي شيء آخر، هو ليس مخاطر القضاء على استقلالية الكاتب، ولا استبخاس سعره في البورصة، وإنما حذفه كزائدة لا فائدة منها، إننا أمام خطرين مفزعين، وقد لا يجدي التحصن ضدهما، خطر الصورة المتلفزة المباشرة وخطر العقل الالكتروني العملاق، إن البث المباشر ميدانياً عما يجري حالياً في الشرق الأوسط أقنعني بأن صورة (ملفقة) واحدة لا يستغرق عرضها أكثر من عدة ثوان قادرة على التأثير على الرأي العام أكثر من مئة افتتاحية توزع على عدة ملايين من القراء، وأكثر من مئة كتاب يترجم إلى عشرين لغة، ثم إن عقلاً الكترونياً واحداً يمكن أن يلغي جامعة بعراقة جامعة السوربون ورصانتها، بكل ما فيها من اختصاصيين وباحثين ومفكرين، كانت التكنولوجيا المتطورة تساعد الإنسان وتخفف من أعبائه، إنها اليوم تحل محله وتلغيه، إنني أشعر وكأن سنواتنا، بل شهورنا في الحضور باتت مهددة جدياً، وقد يتوجب علينا جميعاً أن نهيئ منذ الآن قبورنا، بشيء من الاستكانة والكرامة قبل فوات الأوان...
وقفت لأعلن تمردي الفج قائلاً: (كلا يا سيد (رامونيه) لن أمشي في جنازتي ولن أحفر قبري، أعترف بغطرسة الصورة الجانية، ببطش العقل الالكتروني العملاق، ولكنني مازلت أملك هويتي وحريتي، قد أكون مسلحاً بالسحر الشرقي، والخرافة الظلامية ولكنني أقوى من اللوالب والمسامير، إنني أكتشف زيف الصور التي تعرض عن مآسي الشرق الأوسط، وأفضح أكذوبة الشرعية الدولية بأسرع مما يخيل لمافيات الصور المتلفزة، ولابد من أن أصعد الجبل كبروموتيه، وإن كنت سأسقط، قد يتعذر علي الوصول ولكن المعجزة هي في معاودة الصعود، المرة تلو الأخرى، دون كلل أو ملل...
-2-
كانت المعركة في بدء هذا القرن بين ثقافة- الموز و(ثقافة النبيذ) على نحو ما صورها أحد الكتاب المتحذلقين، المقصود بالأولى الثقافة الطازجة التي ترتبط بتناقضات العصر وهمومه حتى لتكاد أن تكون أشبه بالموز الذي يفسد إذا لم يؤكل مباشرة، والمقصود بالثانية الثقافة المعتقة التي ترتبط بالقيم الخالدة التي لا تتأثر بتواتر الأحداث، وضغوطها حتى لتكاد أن تكون كالنبيذ الذي تزداد قيمته كلما تعتق في الأقبية، وأكاد أزعم أن الثقافة السائدة اليوم هي ثقافة ورق الكلنيكس، التي ليس لها مهمة سوى إزالة الأوساخ والأدران التي تفرزها سلطة غاشمة من جهة أو واقع مأساوي من جهة أخرى.
-3-
حينما توفي الفيلسوف الألماني (هيدجر) نشرت صحيفة (دي تات) الألمانية خبر وفاته على النحو التالي: (مات الإنسان-الهم,لا بسبب خوفه من الموت, وإنما بسبب خوفه من السياسة).
«وجاء في المقال التأبيني عنه: (كان الفيلسوف الناسك يعتقد بأن أحسن تعريف للإنسان هو أنه كائن- أمام- الموت, وهو لهذا السبب كائن مهموم, ولكن الفيلسوف اكتشف قبل وفاته أنه كان ينبغي أن يعرف الإنسان بأنه «كائن-أمام-السياسية» وهو لهذا مهموم).
وتحدثت الصحيفة عن بعض الهموم السياسية التي حملها الفيلسوف في قبره,منها الشعور بأن السياسة التي كانت إبداعاً يستهدف تنظيم العلاقات الإنسانية قد أصبحت عبئاً على الإنسان, تلتهمه وتلغي إنسانيته ومنها أيضاً اكتشافه, في آخر لحظة, أن الثقافة, بعد أن كانت تحتضن السياسة وتوجهها, قد أصبحت تابعة للسياسة, لا تملك وسائل مقاومتها, ولا مناهضتها إنني أتعاطف مع فلسفة (هيدجر) في أي يوم من الأيام,فهي فلسفة مدانة وهجينة, ولكنني أتساءل, وفي شيء من الوجل: (ألا تؤكد الأحداث التي تتواتر بسرعة مذهلة أن الناشط المثقف قد أصبح عاجزاً عن التأثير الفعال, وأن عليه أن يقنع,من الآن فصاعداً, بدور المتفرج الصامت)؟.
-4-
رواية (جريمة عصرنا) للروائي الفرنسي الشاب (بيير موستيه) تروي اغتيال الطيبة بأسلوب جديد هو مزيج من التوجع الميتافيزيقي والشطارة البوليسية, في إطار مسرحي, يعتمد على الرعب والهلع وتتجلى برعاية موستيه في وصف عملية الاغتيال هذه, لا بعفة فلاسفة التجديد, وإنما بتقنيات الرواية البوليسية. إن الطيبة, تطارد من منزل إلى منزل, كما يطارد اللص المحترف في الروايات البوليسية, إلى أن يقتل في شارع خلفي, برصاصة كاتمة للصوت, وعلى مرأى من الناس الذين لا يجرؤون على التدخل, ولا على الاعتراض.
الإنسان الطيب أعزل لا يحميه تكتل سياسي أو اجتماعي أو مهني, لهذا فهو مستباح باستمرار, وهو إنسان مسالم لا يخوض المعارك, وإنما يتلقى الصدمات واللكمات, وهو لهذا مهزوم, وهو إنسان نبيل يلتزم بالممارسات النظيفة المشروعة, وهو لهذا مضطهد ومسحوق.
حياتنا المعاصرة, بمباهجها ومنغصاتها, أشبه ما تكون بدغل مكتظ بالألغام المستورة, إننا بأمس الحاجة إلى خريطة مفصلة, ترشدنا, داخل هذا الدغل, وإلا ضللنا, وابتلعتنا الأشجار السوداء. الإنسان الطيب, مهما تشرنق, وكفى الآخرين خيره وشره لابد أن يغتال, في وضح النهار، والانتهازيون, مهما ادعوا التمسك بالقيم, وتظاهروا بالزهد, هم القتلة عن سابق تصميم وإصرار. وأفدح ما في الأمر, أن جريمة الاغتيال مباركة ومبررة, لا ينقصها حتى تصفيق المشاهدين, في حين أن انهزام الإنسان الطيب ليس مذموماً, ولا مستنكراً, ولا مستهجناً, ومن المؤكد أنه لن يجد أحداً يمشي في جنازته.
-5-
التغيير المتسارع المفزع هو الذي يسبب (الدوار) للإنسان العربي, إنه يرى في هذا التغيير (خيانة للذات) والعداون عليه يتمثل في عقارب الساعة: إنها تقزمه وتجوفه, ومن هنا هذه الحاجة إلى إيقاف عقاربها, وتثبيتها على تاريخ (مقدس) يصبح مع تعاقب الأيام أشبه ما يكون (ببكارة) عقائدية.
وقد يكون من الإنصاف أن نعترف بأن الخائفين على هذه البكارة التاريخية, من جهة, والحريصين على (خيرات) السلطان, من جهة أخرى, هم المصابون بعصاب الساعة, إنهم ينتظرون عقاربها, بهلع وجزع, ويتمنون لو أنها تتجمد, ولا تتحرك, كلاهما يسعيان, ولأغراض مختلفة, إلى تحويلنا إلى حريم سياسي بتراشق الغثاثة في السراديب المحمية بالأسلاك الشائكة, نتفاخر بانصياعنا وإطاعتنا, ننتظر الفرج من أعلى, ولكن عقارب الساعة لابد من أن تتحرك وباتجاه المستقبل بالتأكيد, وفي حركتها الخير كله, والبركة كلها...
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد