غسان الرفاعي: تفعيل الوحدة الوطنية
-1-
زعم أن الفنانين هم، أولا وقبل كل شيء، أناس يعرفون كيف يفكرون بأيديهم، الخيال يتبدد بسرعة، وحركات الفكر والوجدان يخطفها الزوال، ولكن اليد هي وسيلة الفنان لاستيعاب تلك الأطياف الشاردة، وتزويدها بالصورة التي تضمن لها البقاء، فلماذا لا نفكر بأيدينا، ولماذا لا نحاكم بأيدينا؟ لو فعلنا- وهذا ليس مستحيلاً ولا صعباً- لانتزعنا ((الفعل)) من أيدي الذين لا يفعلون، وإنما يهدمون ويخربون، لو فعلنا لسحبنا المسؤولية، كل المسؤولية، من احتكار القلة المتحكمة المستبدة، ووضعناها في أيدي (الرجال المناسبين في الأماكن المناسبة) لو فعلنا، لانقلب الكلام إلى عملة صعبة، لا تقبل المقايضة ولا المبادلة، ولانقلب الفعل إلى انجاز حقيقي منتج، ولنسحب من التداول ذلك الكلام الذي لا رصيد له، ذلك الفعل الذي لا يتجاوز حركة الأسنان في الفم.
-2-
إن الإنسان العربي الذي يتهم عادة بأنه يفرط بالكلام أكثر من اللازم، ويهدر مخزونه اللفظي دون طائل، لا يتكلم بما فيه الكفاية، أو على الأقل لا يكثر من (الثرثرة) بما فيه الكفاية، مفضلا الاستقالة اللفظية دون مبرر، ثم إن الذين يتكلمون يفضلون دوما أن يدرسوا ما سيتكلمون عنه بعناية زائدة، حتى أضحى الكلام أقرب ما يكون إلى التقارير (الخشبية) التي تخلو من البراءة والعفوية، كم نحن بحاجة ماسة إلى ثرثرة حرة لا تراقب ولا تؤطر، ولاتدخل في حذاء صيني، ثم إن ثرثرتنا موظفة توظيفا مصلحيا، ويغلب عليها الانتهاز المسكين، إذ ما معنى هذه الأمثال التي تغزونا مثل: (ابعد عن الشر وغن له) أو (اليد التي لا تقدر عليها قبّلها، وادع عليها بالكسر)؟ (إنها تطالبنا، بكل بساطة، بألاّ نفتح أفواهنا إلا لتأمين حاجاتنا الأولية المباشرة، وتحظر علينا التحدث عن القضايا العامة، حيطة وتحسبنا، بل إنها تحول أعظم القيم إلى سلع تخضع لقانون الربح والخسارة.
يقال إن الكلام قد يكون فناً لإخفاء الفكرة، وإذن لابد من الصمت لإيقاف الرقص المجنون بالألفاظ، وقد يزعم بأن الإنسان قد يقع أسير الألعاب اللغوية، وحينئذ لا يصبح الكشف عن الحقيقة هو الهدف، وإنما التلذذ بالمهارة اللغوية، وقد يتبادر إلى الذهن أن الكلام قد فقد قيمته حينما انقلب إلى وظيفة إعلامية، وقد يخيل إلينا أن لا فائدة من الكلام بعد أن استوى الماء والخشب كما يقال، مما يولد عندنا اليقين بعدم الجدوى، سواء أتكلمنا أم أخلدنا إلى الصمت.
لكن هذه الحجج كلها غير مقنعة، مازالت الثرثرة الحرة (أكثر تعبيراًَ عن كرامة الإنسان وحريته):
أولا، من المحتمل أن ينزلق الكلام، ليصبح فناً لإخفاء الفكرة، ولكن الصمت هو دوماً مؤامرة لاغتيال الفكرة.. المتكلم، نبياً كان أو دجالا، مفضوح، وإذن يمكن محاسبته ايجابيا أو سلبيا، ولكن الصامت، نزيها كان أم مذعورا دعياً، مستقيل، متوار، وإذن يتعذر القبض عليه وواقع الحال أن مأساة الوطن العربي هي في تضخيم عدد المستقيلين خوفا أو قرفا أو يأسا، لا في تضخيم عدد الثرثارين الذين يجيدون فن إخفاء الأفكار، ومن المؤكد أن قساوة المعركة في الوطن العربي ما عادت تسمح بازدهار هذا الفن (الكتيم)
ثانياًَ، إن أكثر ما نشكو منه، هذه الأيام، هو ليس غزارة المهارة الكلامية، وإنما اختفاؤها نهائياً، السمة المميزة لعصرنا هي ليست في كون الغث يعتقد بأنه دسم، عميق، وإنما في مطالبة الغث بحقه أن يكون غثاً، وبمعنى آخر، أصبحت الغثاثة من الحقوق المشروعة، لقد اختفى فرسان المهارة الكلامية، وطفا على السطح فرسان الغثاثة، وهؤلاء لا يتكلمون، وإنما يجعلون من صمتهم ضجيجاًٍ، ومن خوائهم امتلاء.
ثالثاً، لم يعد الكلام(هواية مترفة) بل وظيفة اجتماعية سياسية، ولم يعد الكاتب إنساناً فائضاً عن الحاجة وإنما محترف، يؤدي مهمة خطيرة للغاية، لقد مللنا الكلام (المتطفل) الذي يملأ الساحات من دون دعوة رسمية، وضقنا ذرعاً بالكتاب الهواة الذين يحتشدون في كل مكان حاملين معهم براءة مصطنعة، وتعاليا مزورا، إننا بأمس الحاجة إلى الكتابة- الوظيفة، إلى الكتاب المحترفين المسؤولين الذين يقدمون الأدب الرفيع والحضارة اللائقة.
رابعاً، القول إنه (قد استوى الماء والخشب) ، وإننا واثقون من عدم جدوى كلامنا، اعتراف بالهزيمة، ودعوة مكشوفة إلى الاستقالة والانسحاب، وهنا لا مفر من الانحياز إلى الثرثرة ضد الصمت والاستقالة.
-3-
ولماذا لا نعترف؟ لقد استهلكتنا أحقاد أستهلكتنا دفينة ووافدة، جوفتنا وأتلفتنا: خضنا في بحار الدماء والدموع، وأحرقنا الأخضر واليابس، وصدعنا كل الأعمدة التي تقوم عليها حياة نظيفة، ثم وقفنا بين الخرائب والأنقاض والدخان، نعلن أننا دخلنا التاريخ المعاصر، من الباب العريض: معارك ضارية حاقدة بين الوحدوية والقطرية، بين القومية والأممية، بين التقدمية والرجعية، بين الاشتراكية العربية والاشتراكية العلمية، بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، بين العسكريتاريا والقانون المدني، بين العلمانية والأصولية، ثم تقسمنا طوائف واثنيات، وقتلنا على الهوية ولون البشرة، ودخلنا حروبا كالطواويس، وخرجنا منها كالجرذان، وحينما أتيح لنا شيء من قوة، خطر لنا أن نتحدى العالم، ثم أرغمنا على أن نتنازل، وها نحن، اليوم عراة عزل ننفجع ونولول، نردد: وماذا تريدون منا أن نفعل، العين لا تقاوم المخرز! ولكننا مازلنا نحتمي بأجهزة الأمن للحفاظ على السلام الداخلي وكما كنا في السابق نملأ السجون (بالمتخاذلين) ها نحن نملؤها من جديد بـ(المتشددين) المهم أن يبقى المواطن مهمشا بعيدا عن دائرة القرار، وصهريجا، يتلقى ويمتلئ ليعاد إفراغه وإملاؤه من جديد، ولماذا الاعتراض مادامت البلدان العربية كل البلدان العربية، بأيد أمينة، حريصة على الاستقرار.
-4-
والمفارقة أننا محاطون بالعارفين والخاتمين الذين يعلمون مالا يعلم، المدركين ببواطن الأمور، وهؤلاء يضعون رؤوسنا تحت المقصلة وهم يولولون: إما أن تقبلوا حقائقنا وإما أن نعمدكم جهلة، أو مخربين أو على الأقل مواطنين غير صالحين ينبغي بترهم حتى يتحقق الاستقرار والازدهار.
يبقى أننا نحن المثقفين، اختصاصيي التشكيك والشغب، مدانون: أننا ندخل في عالم اليقين المطلق شقوقا وخللاً، اننا نكتشف أبعاد الفضيحة، أننا شياطين الفوضى والدمار في عيوننا حرب أهلية مضغوطة، وفي قلوبنا أحقاد لم تغسل بعد.
-5-
لكن الانتلجانسيا العربية- وقد خيل إليها أنها قد احتلت مكانا شاهقا في المجتمع، وأن دورها قد تورم بما فيه الكفاية، ومازالت مصابة (بالخصاء) لقد تقلصت ولم تعد أكثر من تراكم من الموظفين المطيعين يتخبطون بين الولاء الظاهر والتمزق الباطن فلا هم مرتاحون لما يصدر عنهم من إنتاج ولا هم قادرون على إطلاق العنان لقناعاتهم، تعيش هذه الانتلجانسيا في غيتو أو على الأرجح في حوجلة مسيجة ولعلها قد أصبحت عاجزة عن التعبير عن طبيعتها المعاصرة والحداثة، إنها في موقف الإحراج المطلق: إذا ارتبطت بتيار أو منظمة ولو بشيء من التحفظ، واكتشفت إن ما ارتبطت به مزور وملفق فهل تعلن انسحابها انسجاما مع قناعتها أم تبقى محافظة على التزامها وإذا ما استردت حريتها، بعد التحاقها بخدمة سلطة ما، لفترة طويلة من الزمن، فإنها تعرض نفسها للاتهام بأنها مرتدة، وعليها أن تتحمل تبعات هذا الاتهام حتى ولو رفضت أي التزام أو إلحاق، فإنها لن تنجو من السخرية، إذ سيقال عنها مخصية سياسياً، وجبانة اجتماعياً
-6-
أعلن منظّر من منظري الشرق الأوسط الكبير أنه يتوجب علينا أن نقبل العدو، وأن نتعايش معه، في قفزة حضارية جريئة، تحررنا من عقدنا المتراكمة، ولكن المنظر الكبير لم يخطر له على بال أن يجاهر بضرورة المصالحة مع شعبه، والتعايش مع طموحاته وكرامته.
المطلوب منا، قبل الإقدام على القفزة الحضارية الجريئة تطبيع العلاقات بين الحاكم والمحكوم، ومصافحة كل فرد من أفراد شعبنا، والاعتذار من كل آباء وأمهات المعتقلين والمسجونين تعسفاً وزوراً، على امتداد الوطن العربي.
ولنأت بالحطب، بكميات كبيرة، كبيرة جداً، ولنشعل النار في الساحات العامة، لنحرق الأضابير الآثمة، التي تشهد على جنوحنا السياسي وعلى تورطنا في نقد الحاكم ولنحرر الناس كل الناس من هذا الرعب وليتوقف جلاوزة (الوشاية الرسمية) عن توزيع صكوك الوطنية، وبراءات (الاحتشام المسلكي)، ولتتحقق الوحدة الوطنية، في أسمى مظاهرها.
وتعالوا، يبكي بعضنا على كتف البعض الآخر ومن كان منا، بلا خطيئة، فليرجم الزاني المزعوم بالأحجار. لقد تفرقنا في المقاومة والصحوة، وتفنن بعضنا في الوشاية ببعضنا الآخر فلنتحد على الأقل في الهزيمة وقبل مصافحة الخصم الذي سرق أرضنا وقهر كرامتنا الوطنية، لنصفح عن الأخطاء والارتباكات المزعومة المزورة التي تقض مضاجعنا، وتنغص علينا الحياة الطبيعية، وتجردنا من إنسانيتنا، ببربرية وسادية.
تظل الديمقراطية، من أي منظور ننظر إليها حلماً جميلاً ونبيلاً ومن الإجحاف إظهارها ولو بغرض الحماية من الغزو الخارجي، على أنها (ضرب من الاستيراد) أو (التلوث الوطني) أو (النفاق الحداثي)
وتبقى الحرية مطلبا سامياً، يعلو على الابتزاز والمساومة ولا يجوز تعهيرها ولو بهدف مقاومة العدو المتربص، إن الحرية في المطلق، على أية حال، وكما يفهمها المناضلون الأبرار في سبيلها هي غير الحرية الليبرالية (المتأمركة) التي تروج لها الدكاكين الإعلامية والثقافية التي تترصدنا وتسعى إلى غسل أدمغتنا، وتلويث طهارتنا.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد