أناشيد مالدورور

10-04-2011

أناشيد مالدورور

حين صدرت الترجمة العربية من «أناشيد مالدورور»، للشاعر الفرنسي لوتريامون، بترجمتها العربية (ترجمة سمير الحاج شاهين) في بداية ثمانينيات القرن الماضي، سرعان ما وجدت مكانتها عند العديد من قراء العربية، إذ عرف هذا النص (بترجمته الكبيرة) كيف يقدم لا نفسه فقط، بل ذاك المناخ الرهيب والمتفرد وذاك الفضاء الصارخ والموجع، اللذين يعبق بهما، واللذين لا يمكن لك أن تقف حيالهما متفرجا. على الأقل، هذا ما كنت اشعر به على الدوام، لدرجة أني حين قرأته، يومها، لم انس مطلقا هذه الحرقة المنبعثة من الكلمات التي تشعلك حتى الرماد.
الكتاب بطبعته تلك (الصادرة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»)، نفد ولم يصر إلى إعادة طباعته. من هنا كنت غالبا ما أجد أن ثمة أجيالا جديدة، خسرت شيئا ما، لأنها لم تطلع على النص وبخاصة تلك التي لا تجيد الفرنسية. لأقل شعرت بسرور حقيقي، حين أعادت منشورات «الجمل» مؤخرا، طباعة هذا الكتاب، وبالاتفاق مع المترجم. غالبيتنا كنّا نعتقد أن سمير الحاج شاهين (أطال الله في عمره) كان غادر الحياة بصمت، مثلما عاش طيلة حياته بصمت وبعيدا عن الإعلام. إلا أن إصرار خالد المعالي بالبحث عنه، أثمر أخيرا في إيجاد الكاتب، لينتج عن ذلك إعادة إصدار – تباعا – كل الكتب التي ترجمها شاهين كما تلك التي ألفّها، ولا سيّما في كتابيه الرائعين «لحظة الأبدية» و»قراءات في الشعر الفرنسي».
بطبعته الجديدة، أعدت قراءة مالدورور، كما في المرات الأولى، ما زال النص مدهشا، لا يزال يملك هذه الحرقة التي لا تجعلك محايدا البتة، وبخاصة تلك البصمة التي تمسك بك، عبر هذه الأقانيم الثلاثة (إذا جاز القول)، الحاضرة في نص لوتريامون، وهي «الشيء» البيولوجي، والسيكولوجي والاجتماعي. ثلاثة أقطاب، على علاقة وثيقة بحياة مؤلفها، التي عرفت بدورها زوايا حادة تلخصت ب: العدوانية الجنسية، والتدخل المؤكد للتحكم العقلاني كما للمحتوى الأخلاقي – الإيديولوجي وتحديدا هذا المحتوى المتمركز على الثورة.
صحيح أن كل هذه السمات لا تظهر بحالتها الخام وخاصياتها المحددة، إلا أنها تتداخل في بعضها البعض لتحول كل واحدة منها الأخرى. في أيّ حال، لا يمكن بعيد قراءة الكتاب، إلا أن تغرق بهذا الكرب الغريزي، وبخاصة حين تجد أنك أمام نص يمجد المتخيل على الحياة الواقعية، أي وكأن كل هذه الحياة، ليست في النهاية سوى قبض ريح، لأنها «في مكان آخر».
بعد سنين وسنين على صدورها، تبقى «أناشيد مالدورور»، واحدة من أجمل القمم الأبدية التي كتبها الإنسان على مرّ تاريخه، واحدة من تلك الملاحم الكبيرة – وهي ملحمة معاصرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى – التي لا تؤرخ لفرد فقط، بل لحقبة وتاريخ، لا يعرف كيف الدخول إليهما، إلا من يجيد قراءة هذه الأعماق. كما لوتريامون بالضبط.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...