جوليان بلاين يخرج الشعر من إيقاع الحروف
معظم الشعراء العرب اليوم يعرفون الشاعر الفرنسي جوليان بلاين، الصوت الصارخ في أرجاء مدينة لوديف خلال مهرجان «أصوات المتوسط» وأحد رواد الشعر الحدثي (poésie action). لكن ما يجهله معظمنا، هو أن بلاين كتب أيضاً قصائد فريدة من نوعها تتألف من كلمتين فقط، وتقاوم أي محاولة لتفسيرها لكونها موجودة فقط لمتعة النظر والقراءة والسمع، قصائد يفقد القارئ داخلها نقاط استدلاله المعتادة، وقد جمعها الشاعر مؤخراً في كتاب ضخم يحمل عنوان «Bimot» وصدر حديثاً لدى دار Al Dante الفرنسية.
ولفهم هذا النوع من الشعر الذي انطلق بلاين في ممارسته منذ بداية الستينات، ولم يفرغ منه بعد، نستحضر أولاً الاستشهادين الحاضرَين في بداية الكتاب كفاتحة له. الاستشهاد الأول لرولان بارث:» لا يقصد الهايكو قول أي شيء على رغم إمكانية فهمه. وفي هذا الشرط المزدوج ينفتح على المعنى». أما الاستشهاد الآخر، فهو لجان جنيه، الذي أجاب على السؤال الآتي: ما هي الكلمات التي تبدو لك الأقوى والأقرب إلى الفعل؟ بقوله: «القوة تكمن في طريقة تركيب الكلمات وفي المواجهة القائمة بينها. ولذلك، لا بد من كلمتين على الأقل». استشهادان يحدّدان بدقة شعر بلاين المينيمالي الرافض للفصاحة والاستعارة المستهلَكة، والمقتصر على مونتاج دقيق أو مواجهة أو توتر أو صراع بين كلمتين تحضران بحروفٍ طباعية مختلفة تؤدي إلى عدة مستويات قراءة وتحوّل كل صفحة من الكتاب إلى مشهدٍ مسرحي. ويفصل بين الكلمتين خطٌّ أفقي يعكس الرابط (التماثلي، الموضوعي، الذاتي) بينهما أو المقابلة أو التبادُل أو الانقسام أو النتيجة أو الخلاصة...
ومثل شعر الهايكو، تبدو هذه القصائد محرَّرة من المعنى ومفتوحة عليه في آنٍ. فلا شيء فيها قابل للفهم أو التأويل، بل يجد القارئ نفسه أمام نصوصٍ شبيهة بأشياء عالمنا الممنوحة للإدراك الحسّي فقط، كما يجد نفسه أمام دراماتورجيا حرفية مكثّفة فيتنقل بينها خطوةً بعد خطوة، لافظاً أصواتها، الواحد تلو الآخر، ورابطاً حروفها أو مفكِّكاً إياها، وفاتحاً بين كلماتها (وداخل الكلمة الواحدة) معابر مختلفة. وتسمح طبيعة هذه القصائد للقارئ بالتنزه داخل الكتاب بحرية وبالاستسلام لقراءةٍ عشوائية، لكنها تتطلب منه الاضطلاع بمهمة اكتشاف اتصالاتها وتركيباتها وباستخلاص مفاعيل توترٍ يشكل طاقة فضائها الخاص، فيبلغ فضاءً-زمناً جديداً لا يزال اللغز ناشطاً فيه، وبُعداً منسوجاً من روابط وقطائع.
وفي هذه القصائد، تستعيد الكلمات والحروف وعلامات التنقيط ثقلها المظلِّل وحجمها المعتِم وسماكتها، كما تسترجع مادّية رسمها وأصواتها الخشنة أو الرقيقة وصداها داخل الصمت وارتجاجها المستقل عن معناها وحضورها الحسّي والشهواني، وجسدها النابض بالحياة. وبدلاً من الامّحاء، تحضر بعريها المماثل لعري الأشياء وببساطتها وبداهتها الملغّزة ودلالاتها الكامنة.
وثمة في هذه القصائد أيضاً عملية ناشطة بين مَفْصلةٍ وتفكيكٍ، من أجل تسيير كلمات وأصوات ومعان ترتبط بشكلٍ حميم بمشهدها السينوغرافي الذي يشكل مكان لقاءٍ وامتحان لها يفجّر أي عملية تسييجٍ ثابت لها. فنُّ مسرحةٍ إذاً مختزَل بتعبيره الأبسط لجمعه أو مقابلته بين كلمتين فقط. أما وظيفة هذا الترتيب، فهي تجاوز المعنى المتداول والمفروض علينا والبحث عن المعاني الأخرى الممكنة، ولكن أيضاً الرغبة في انتزاع (بالقوة) من هذه الكلمات معنى أصلي، أولي. يتوجّب إذاً رؤية هذه الكلمات وقراءتها كأشياء فريدة جاهزة للتجزيء ومؤسِّسة لارتباطات وتخمينات جديدة، كما لو أنها مواقع دلالية معلّقة في انتظار معنى جديد ومفتوح على ما هو متبقٍّ فيها من جهة أصلها، أصل حي ومتعدد، لأن الروابط والمعابر بين الكلمات مرنة ومتحركة وغنية بالفوارق الحرفية والسمعية والدلالية.
وتنفتح فضاءات المعنى التي يتعذر تحديدها، والمنبثقة من تلك المواجهة بين الكلمات، على تعددية أخرى: تعددية ميازين القوى داخل الكتاب بشكلٍ عام. فالروابط بين الحروف والكلمات، أو بين كلمة وأخرى، أو بين الكلمات وبياض الصفحة لا تنبثق فقط من داخل كل قصيدة، بل من قصيدة إلى أخرى، داخل حقل قوة يسجل انقلابات والتفافات وإرجاعات وإصداءات وتغييرات في الوجهة... وأحياناً، يشير خيار الكلمتين نفسه (اللتين تتألف منهما القصيدة) إلى مجموع المسارات (trajets) الممكنة: إلى الأمام، إلى الوراء، إلى الأعلى، إلى الأسفل، أو بشكل دائري أو حلزوني.
وبعيداً عن اللعب العبثي بالكلمات، تتفجّر قصيدة بلاين فتتحوّل إلى مكان تساؤلٍ جوهري يُمفصل الداخل والخارج، المقذوف والراكد، نقطة العبور أو الفيض ونقطة توقف المسار، مساحة الإسقاط الحساسة ومساحة الحفر بواسطة الحروف، عملية ابتلاع النفَس أو الصوت وعملية علكه، وذلك من أقرب مسافة ممكنة من مادّية الحروف، ومن أقرب مسافة ممكنة من الأحاسيس، من دون أي سيطرة مِن قِبَل الشاعر، الذي يـــبدو مـــقولَباً بتيـــارات العالم وفيضه، بقطـــائعه وترابـــطه، بانعدام التواصل الصدفوي للواقع وبما هو ظرفي، فمكان اللحظة هو الذي يملي عليه النص الذي يتعذر عليه التحكّم به. وحول هذه المسألة، يقول بلاين: «لا نعمل إلا بواسطة الكلمات التي تحيط بنا، وكل قصيدة هي ظرف مكان. ما يقال لا قيمة له. مَن يكتب هو ليس مَن أكون، ما كنته أو ما سأكونه، بل مكاني في اللحظة التي أكتب فيها».
أنطوان جوكي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد