إصلاح القضاء يحتاج فقط إلى تصحيح خطأ واحد ارتكبه قاضٍ عادل

26-05-2011

إصلاح القضاء يحتاج فقط إلى تصحيح خطأ واحد ارتكبه قاضٍ عادل

الجمل – عبد الله علي: تعثَّر القضاء، بعد أن تاهتْ به السبل وضلَّلته المفارق، فاختلَّ توازنه ووقع في حفرة عميقة ، ترابها الفساد وحصاها البيروقراطية وحجارتها أعباء التبعيَّة الثقيلة. والقضاء عندما يقع ،لا يقع وحده، لأنه يحمل في يديه مسبحة العدالة، ويلتف على كتفيه وشاح القيم والمثل، ويزين رأسه تاج سيادة القانون. وهاهي حبَّات مسبحة العدالة تتدحرج اليوم على درج القصر العدلي بعد أن انقطع خيطها من كثرة التلاعب به. وها هو وشاح القيم والمثل يحتاج إلى من يرتقه بعد أن خلق نسيجه نتيجة الاحتكاك المستمر مع واقعٍ يأبى الانقياد لهذه القيم والمثل ...
وكي تكون الصورة التي نرسمها واقعية وصادقة ينبغي أن نقول أن ثمة نوراً بعيداً ما زالت أشعته تتسلَّل إلى تلك الحفرة، وأنَّ القضاء لم يفقد قدرته على السير وإن كان لا يسير إلا متوكِّأً على عصا، التي بالتأكيد ليست عصا موسى.. إنها عصا أخرى، خشبها مقطوع من أعصاب ثُلََّةٍ من القضاة الذين انحنى عودهم وهم يحاولون حماية واحة الشرف الصغيرة من خطر التصحُّر الزاحف إليها من كل الجهات.

*****

قبل خمسة وأربعين عاماً، وتحديداً في 14-2-1966، كان القضاء السوري على موعد مع السقوط في هاوية لم يقدَّر له الخروج منها حتى اليوم، ولم يكن عرَّاب هذا السقوط المريع إلا عملاق كبير من عمالقة القانون في سوريا أعني الدكتور الراحل محمد الفاضل الذي كان يشغل منصب وزير العدل في ذلك التاريخ، وهذا في الواقع ما جعل المصيبة مضاعفة لأنها جاءت من حيث لم يحتسب أحدٌ!
لا يمكننا اليوم تخمين ما كان يجول في خلد الفاضل عندما دبَّر إصدار المرسوم رقم 24 لعام 1966، غير أنه بإمكاننا تقدير الخسارة الفادحة التي لحقت بالقضاء نتيجة ذلك التدبير السيء.
إلحاق القضاء بالسلطة التنفيذية، وتقزيمه من سلطة قائمة بذاتها إلى مجرد ملف على طاولة وزير العدل . ما الذي قد يدفع رجل قانون من وزن الفاضل إلى التورط بمثل هذه الخطوة التي لن يغفرها التاريخ؟ هل هي المبالغة في تقدير النفس فظنَّ وهو وزير للعدل آنذاك أنه أفضل من يترأس القضاء (ولو بالنيابة) وأكفأ من يعمل على إصلاحه؟ أم أنه الضعف البشري أمام إغراء السلطة والاستسلام لغوايتها فلم يقنع بكرسي الوزارة وحدها وسعى إلى السيطرة على مجلس القضاء الأعلى باختصاصاته وصلاحياته الواسعة؟ أم أنه مزيج من كلا الأمرين؟
سنفترض أعلى درجات حسن النية احتراماً لتاريخ الرجل وإشفاقاً علينا من ثقله القانوني، وأنه لم يفعل ما فعله إلا من باب الحرص على القضاء ومحاولة إصلاحه على يديه، وقد يكون هذا الافتراض واقعياً ومطابقاً للحقيقة كما حدثت، ولكن ما الفائدة طالما أن القضاء سقط؟ هل يغير من هذه النتيجة شيئاً، أن يكون السقوط قد نتج عن حسن نية أو سوء نية؟
لا أشعر الآن أنني أظلم الرجل إذا قلت أن الضرر الذي سبَّبه للقضاء بإعداده ذلك المرسوم الذي لا يتعدَّى حجمه الأسطر القليلة، قد يرجح على المنافع التي جنتها أجيال من طلاب الحقوق ورجال القانون من مجموعة كتبه الضخمة والقيِّمة.

*****

اليوم، وفي ظل الحديث عن تشكيل لجنة لإصلاح القضاء، تبدو الاستفاضة في الحديث عن المرسوم 24 والمدبر له، ذات أهمية خاصة لأن أي عملية إصلاح حقيقية لا بد أن تبدأ بالتنقيب في كومة الأنقاض التي انهالت على جسد القضاء إثر سقوطه المريع والتعمق في التنقيب حتى الوصول إلى اللحظة التاريخية التي علق فيها القضاء بشباك المرسوم 24 المشؤومة ومن ثم العمل على تحريره منها وإطلاق سراحه من إسارها. وفي نفس الوقت لا بد من إجراء محاسبة ولو تاريخية لمن يعتبر مسؤولاً مباشرة عن نصب تلك الشباك وإيقاع القضاء في حبالها. والفائدة العملية التي نبتغي اجتناءها من وراء هذه المحاسبة، هي أن الإنسان مهما كان فاضلاً لا يجوز إعطاءه صلاحيات مطلقة حتى لو كان ذلك في سبيل تحقيق مهمة نبيلة كإصلاح القضاء لأن إطلاق الصلاحيات بحدِّ ذاته مفسدة وبالتالي كيف نأمل الوصول إلى الإصلاح بوسيلة فاسدة؟

*****

لا يحتاج القضاء إلى عصا موسى كي ينهض . فالتفكير في اللجوء إلى المعاجز يصورنا وكأننا غارقين في بئر من البؤس لا يمكن الخروج منه، وقد يكون هذا هو عين المطلوب من تضخيم بعض الأزمات: إعلان التسليم والإحالة إلى الغيب والانتظار اليائس لفرج لن يأتي، والنتيجة بقاء الحال على ما هو عليه يستفيد من يستفيد ويتضرر من يتضرر.
ورغم أن للبؤس بئر في واقعنا، إلا أننا نؤمن بأن نهوض القضاء ممكن.
رسمياً، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، تم إنشاء لجنة تحت مسمى "ضخم" (لجنة صياغة استراتيجية إصلاح جهاز القضاء) وذلك بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 6721 تاريخ 17 /5/2011  وكأنهم بتضخيم اسم هذه اللجنة يريدون إيهامنا أن لديها قدرات خارقة وأنها بصدد صنع معجزة. لذلك أقول لكم منذ الآن: انتظروا الفرج الذي لن يأتي.
لا أقول ذلك عبثاً أو من باب السخرية فقط، وإنما من خلال قراءة متأنية لتشكيل هذه اللجنة ومهمتها والجهة التي ترتبط بها.
فمن حيث الشكل، نلاحظ عدم استخدام كلمة "السلطة" للإشارة إلى القضاء، والاكتفاء باستخدام كلمات مثل "جهاز" أو "مؤسسة"، مما له دلالة كبيرة على حدود الرؤية التي ستنطلق منها اللجنة العتيدة في عملها، وحجم الآمال التي يمكن أن تحققها. فالقضاء هو ثالث السلطات التي تتكون منها سلطة الدولة إلى جانب السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وهو لا يقلُّ عن هاتين السلطتين في شيء. وأية خطة لإصلاح القضاء لا تنطلق من رؤية القضاء كسلطة لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
ومن حيث المنطق فالبداهة تقول أن سبب المشكلة لا يمكن أن يكون هو نفسه سبب الحل. فإذا كانت مشكلة القضاء قد بدأت منذ أن وقع في حبال المرسوم 24 لعام 1966 الذي حوله من سلطة مستقلة إلى مرفق تابع للسلطة التنفيذية ممثلة بوزير العدل، فكيف يمكن للجنة تأسست بموجب قرار صادر عن رئيس مجلس الوزراء ويشرف عليها في عملها كل من وزير العدل ورئيس المجلس، أن تحل مشكلة القضاء؟ أين المنطق في ذلك؟

*****

بالنسبة لي، أعتقد أن إصلاح القضاء يجب أن يبدأ بصدور قانون عن مجلس الشعب يعين بموجبه رئيس محكمة النقض نائباً لرئيس مجلس القضاء الأعلى، لأن مثل هذا الإجراء من شأنه تحرير القضاء من شباك المرسوم 24 وإنهاء تبعيته للسلطة التنفيذية، كما أن صدوره عن مجلس الشعب ينطوي على دلالة أن سلطة الشعب هي التي أعادت له استقلاله فلا يمنُّ عليه بها أحد.
بعد هذا يتم تشكيل لجنة لتدعيم استقلال السلطة القضائية وإصلاح مؤسساتها، وينبغي أن تكون مشكلة من أعضاء في مجلس الشعب وكبار رجال القضاء والقانون وتعمل تحت إشراف رئيس الجمهورية، وتكون مهمتها تشريع القواعد الدولية وإدخالها في القوانين الوطنية وعلى رأس هذه القواعد مجموعة الأمم المتحدة المتعلقة باستقلال القضاء، ووضع برنامج جدي لإعادة اختبار كافة القضاة الموجودين على رأس عملهم والتأكد من استيفائهم للشروط الواجب توافرها في القاضي سواء من حيث العلم أو من حيث السلوك.
وينبغي في اعتقادنا إعادة النظر في القواعد القانونية المتعلقة بمسؤولية القاضي المدنية وخاصة لجهة ما جرى عليه الاجتهاد القضائي من أن تعويض المتضرر من غش القاضي أو أي خطأ جسيم يرتكبه القاضي يتمثل هذا التعويض فقط في إلغاء القرار الصادر عن هذا القاضي دون إلزامه بدفع تعويض مادي، رغم أن القانون يلزمه بدفع هذا التعويض المادي، لكن القضاة تواطؤوا فيما بينهم على ما يبدو على عدم تطبيق نص القانون بما ينجيهم من المسؤولية المادية. ونعتقد أن من شأن تفعيل هذه الخطوة أن تجعل القضاة أكثر حرصاً ودقة والتزاماً بقواعد النزاهة والحياد أثناء قيامهم بعملهم.
ثم يمكن بعد ذلك وضع الأسس لتنظيم جهاز القضاء كطرق تعيين القضاة وحصانتهم وإجراءات محاكمتهم ووضع معايير خاصة لسلوك القضاة وغيرها من الأمور الأخرى التي لا يسمح المجال بالتطرق إليها. لعل وعسى.

التعليقات

تحميل القضاة المسؤولية كما وردت في المقالة فكرة أؤيدها خاصة في ظل هذا الفساد المستشري

الإصلاح يجب أن يكون إصلاحاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. ومحاربة الفساد بكافة أشكاله. فالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي الأساس للجهاز الحكومي في المرحلة القادمة.‏ إن ركب الإصلاح جار.. وقد انطلق في المجتمع السوري لكنه يحتاج إلى ثقة وصبر وسرعة لا تسرع.. والنظر في الآليات اللازمة لتعزيز النزاهة والشفافية والضوابط للوقاية من الفساد.. ووضع مقترحات لمكافحة الفساد.‏ أما عن وجوه الفساد فيتجلى في عدم أهلية القاضي.. وقبول أمر غير مشروع وأن ينحرف القاضي عن الطريق الصحيح لتحقيق المنافع الخاصة به.. وسوء معاملة القاضي لأحد الأطراف المتنازعة أثناء سير الجلسات من أجل حماية الطرف الآخر من الدعوى.‏ ومن الحالات المرضية التي يعيشها القضاء أيضاً (الرشوة - الاختلاس - التستر عن أعمال الفساد - وإساءة استخدام الوظيفة).. وأيضاً هنالك جريمة استثمار الوظيفة.‏

انا مواطن عادي اعملوا ما شئتم لكن اضمنوا لنا ان لا احد فوق القانون وان كل احد يحاسبه القانون حتى من وضع القانون نفسه والتمسوا المشاورة واسالوا اهل الذكر وتجارب الاخرين ممن استطاعوا محاسبة كل احد مهما كان وشكرا وفقكم الله لما فيه العدل الذي هو اساس الملك وبقاء الامم .

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...