فلسفة السخرية للتخفيف من آلام العالم
اكتشف الإنسان لغة السخرية حتى يخفف بها عن الكوارث الصغرى والكبرى التي تواجهه، أو يباغت بها، ومن جهة أخرى استطاع أن يفلسف هذه الوقائع المؤلمة ويضفي إليها روح النكتة.
ويمكننا اعتبار هذا الميل إلى روح الدعابة والسخرية في مواجهة الأحداث المؤلمة التي تصيب الإنسان، وتكون – أحياناً- فوق طاقة تحمله بمثابة تعزيز روح المقاومة لديه.
إنها تشير إلى مدى إصرار الإنسان على تقبل مر الحياة مثل تقبل حلوها، وهنا يحصن هذا الإنسان نفسه ضد حتى حالات الاستفزاز التي يواجهها في تفاصيل حياته اليومية.
لكل مجتمع جحاه
الشخص الساخر سواء كان فنانا، أو شخصاً عادياً يلزم المجتمعات في كل تجمع سكني، لأنه يحقق شيئاً من التوازن في تفاصيل الحياة اليومية للناس.
في رأي للفيلسوف الوجودي زورن كيركغور يرى فيه أن أهمية المهرج تكمن في الدور الذي يلعبه بطريقة غير مباشرة للتخفيف من المآسي التي يعاني منها الناس.
يصور الفيلسوف رأيه على شكل مقطع أدبي يقول فيه: /حدث ذلك في مسرح حيث شبت النار في أجنحته، فخرج المهرج ليحذّر النظارة من الكارثة المحدقة بهم، وضج الجمهور بالضحك والتصفيق استحساناً لنكتته، وكلما زاد المهرج في تعنيفهم وتحذيرهم زاد الضجيج والضحك/.
يتضح من هذا المقطع أهمية وجود شخص يحمل روح النكتة حتى عند وقوع الويلات والمآسي، هذه النكتة التي تخفف عن الناس، وتروّح عنهم بعض الشيء، فالتغلب على ما هو مأساوي في الحياة لا يتم إلا بوسيلتين فقط هما: الدين، والسخرية كما يرى أحد الفلاسفة.
إذا نظرنا إلى مشهد مروع يقوم فيه المهرج بالتخفيف عن الناس من خلال إضفاء روح السخرية، فينتابنا إحساس أن هذا الشخص المهرج يمتلك عيناً ثالثة يرى بها ما لا يراه غيره.
بناء على هذا الاستقراء، يمكنني القول بأن الملا نصر الدين/ جحا/ لم يكن أقل شأناً من الحكيم/أحيقار/ من خلال أهمية وجوده في الناس، ذلك أن الثاني كان يقول حكمة، والأول يقول نكتة، وكانت النكتة أحياناً تجلو في روح الحكمة لدى أحيقار كما كانت الحكمة تجلو أحياناً في روح النكتة لدى جحا، ولذلك يقال إن لكل مجتمع جحاه، ولكل مجتمع أحيقاره يمكن أيضاً ملاحظة سمات مشتركة بين ملامح وجه المهرج، وملامح وجه الفيلسوف.
لننظر إلى: الجاحظ.. توفيق الحكيم.. شوبنهور..جحا.. شارلي شابلن.. اسماعيل ياسين، ولعلي أذكر أن بعض نقاد السينما أطلق على شارلي شابلن لقب: /المهرج الكوني/.
يتمتع الساخر بهذه الخصوصية في امتلاك وجه ضاحك «باك في آن» فيمكن أن تضحك حد القهقهة، وأنت تنظر إليه، ويمكنك أن تبكي حد النحيب، وأنت ترنو إلى تلك القسمات.
إن ما يضفي على الساخر روح السخرية، امتلاكه لهذه الخصوصية في الوجه، فإن فقد هذه الميزة، استعان بوجه صناعي جعله وجهاً مستعاراً له، وهنا يحاول أن يعوض ذلك بدقة الحركات البهلوانية، والتلاعب بحركات الألفاظ.
السخرية والأدب
يحفل تاريخ الأدب بنماذج بالغة الأهمية من الإبداعات الساخرة، وقد استطاع هذا اللون من التعبير الأدبي أن يتمتع بخصوصية حتى نستطيع أن نقول مثلاً: إن جورج برنارد شو هو فيلسوف ساخر، وأن عزيز نيسين هو كاتب ساخر.
ويمكننا قراءة نماذج هامة من الأدب العربي تتناول سيكولوجية الشخصية الساخرة.
شخصية الإنسان الساخر في الأدب باتت من الشخصيات المميزة، كون الكاتب الساخر ينتقيها من قاع البيئة المحلية، وكانت هذه الشخصية بالغة الأهمية في تلك الإبداعات.
وكان الشخص الساخر يظهر بأشكال وألوان وهيئات مختلفة، يظهر تارة على أنه بهلول، وتارة على أنه معتوه يفلسف الأحداث والوقائع، أو مجذوب، وأحياناً يميل البطل في مراحل وقوع المآسي البالغة عليه إلى شيء من السخرية كما الأمر في مسرحيات شكسبير.
كذلك استعان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة بشخصية الساخر في عمله الكبير/هكذا تكلم زرادشت/ عندما ظهر ذاك الشخصي الساخر من الجبال وغدا ينذر الناس قائلاً: الحياة في خطر.
كما استعان الفنان السوريالي سلفادور دالي بشخصية المهرج في الكثير من أعماله التشكيلية، بل كان دالي نفسه يتقمص في كثير من الأوقات شخصية المهرج، ويتزيا بزيه حتى عند افتتاح معارضه، أو زياراته إلى أماكن عامة أو في بعض تصرفاته، وحتى أحاديثه.
كما أن مذهب السوريالية استفاد كثيراً من لعبة السخرية، إن لم تكن إحدى أهم دعائمه كما يؤكد ويؤكد أندريه بريتون- واضع بيانات السوريالية- .
المهرج الإيرلندي
إن هذه الثمار هي الكتابة الآلية ورواية الأحلام تتميز في وقت معاً بأنها الوحيدة التي توفر مواد تقديرية رفيعة للنقد الذي يبدي في الميدان الفني حيرة غريبة وبأنها تمكن من إعادة تصنيف عام للقيم الشعرية وبأنها تزود بمفتاح قادر أن يفتح إلى ما لا نهاية ذلك الصندوق المتعدد الأعماق الذي يسمى الإنسان.
فجيمس جويس، صاحب رواية /عوليس/ الذائعة الصيت كان يردد:
لست إلا مهرجاً إيرلندياً، أو جوكراً كبيراً في هذا العالم.
وبطبيعة الحال لا يمكننا تجاهل هذه الآداب، وهي تكون عادة إلى جانب الأفكار الجادة التي أيضاً تميل في أجزاء منها إلى لغة السخرية.
وكان اللجوء إلى السخرية حالة يحاول من خلالها الأدباء التعبير عن المآسي التي تصيب العالم بصفة عامة، أو تصيبهم بصفة خاصة.
إنها المعاناة التي تدفع إلى التعبير عن هولها من خلال اللجوء إلى أحد أشكال السخرية، وهنا علينا ألا ننسى تلك المعاناة الشديدة، وتلك الأهوال التي وقفت خلف كل تلك الإبداعات الأدبية الكبرى التي تقدمت للبشرية.
الشخصية الساخرة الشعبية
الشخصية الساخرة موجودة على الأغلب في كل تجمعات الناس، فتارة تبدر السخرية من شخص به مس من جنون، وأخرى من شخص بهلوان، وأخرى من شخص عبثي.
كل عصر له ساخره، كل دولة لها ساخرها، كل مدينة لها ساخرها، كل قرية لها ساخرها.
في كتابه /فلسفة البلاغة/ يتحدث إ.أ ريتشاردز عن أهمية البلاغة من أجل إيصال المعنى إلى القارئ وهنا ندرك كم على الساخر أن يعتمد كذلك على أهمية البلاغة في الوظيفة الإنسانية التي يؤديها.
ويرى /أنتوني جيندز/ أن العولمة فرضت نموذجاً جديداً من العلاقة بين الإنسان والمعارف التي يتلقاها وهو بات ينظر نظرات جديدة إلى ما يقرأ، أو يسمع من هنا فقد بات الإنسان يحتاج إلى شيء من الدعابة في خضم هذه المشاهد المؤلمة التي يراها كل يوم في وسائل التقنيات العولمية المعاصرة.
يحتاج الإنسان إلى من يضحكه/ كما يحتاج إلى من يبكيه، ويكفي الإنسان الساخر فضلاً أنه قَبِل أن يكون ساخراً يخفف عن نفسه، وعن الناس من حوله وقَبِل لا أن يلعب دور الساخر المخفف عن الناس فقط، بل أن يكونه وفي جميع الأحوال فإن الذي لا يحب الناس حباً جماً لا يتطوع من أجل أن يضحكهم، في حين دموعه تتساقط في أعماقه، بيد أنه يبتسم عندما يرى الابتسامات ترتسم على شفاه أولئك الذين ينظرون إليه، وهكذا فكما أنهم يستمدون ابتساماتهم من حركاته، فإنه يستمد ابتسامته، وكذلك حيويته من تلك الابتسامات التي تزيده تألقاً، تزيده بهجة، وهو في غمرة عمله الذي هو في جوهره إسعاد الناس.
عبد الباقي يوسف
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد