أنسي الحاج: بَشَــــر وآلهــــة
■ حياة الفنّانات
لامسَ مسلسل أسمهان حياة الفنّانة بجرأة ومحبّة، ونقَل لوحاتٍ من مجتمع جبل الدروز معبّرة ومتنوّعة دون أن يَخْدش أو يستفزّ. عرّى التحامل المصري الرسمي على المطربة ولم يوفّر كبيراً أو كبيرة، ودائماً في إطار لائق. لقد خدم السيناريست نبيل المالح موضوعه أجلّ خدمة، وجسّدت سلاف فواخرجي شخصيّة أسمهان بأجمل ما يمكن أن يحلم به المشاهد، ونجح شوقي الماجري في جعل الممثلين جميعاً يعطون خير ما عندهم.
لم يأخذ مسلسل أمّ كلثوم الطريق ذاته. ربّما لأنّ شخصيّة أمّ كلثوم الفولاذيّة تختلف كليّاً عن شخصيّة أسمهان المأسويّة وظروف الأولى واتتها وانصاعت لها فيما ظروف الثانية لم ترحمها. كانت أسمهان ضحيّة المجتمع وكانت أمّ كلثوم حاكمة من حكّامه. كانت أسمهان ضحيّة السلطات وكانت أمّ كلثوم سلطة في السلطة وأحياناً فوق السلطة.
أمّا مسلسل ليلى مراد فلم أستطع متابعته لأن وجه الممثّلة التي اختيرت للدور كان يوحي لي أنه أقرب إلى أن يكون وجهاً لشادية منه لليلى مراد.
نتابع حكايات فنّاناتنا بأمل اكتشاف ما لم تُطْلعنا عليه كليشيهات الصحافة عنهنّ. غلاف التحنيط الذي يحيط بهنّ إساءة كبيرة إمّا لهنّ شخصيّاً وإمّا لواقع الفن العربي والمجتمعات العربيّة، كأنّ هؤلاء البطلات مصطلحات مركّبة ولا حقيقة فيهنّ.
وحدها أسمهان شذّت علناً على القاعدة في حياتها وفي مماتها وبعد مماتها ولا تزال، مع علامة فارقة ضخمة هي أن تمرّدها لم يسقط في الاستهتار الأحمق بل بدا على الدوام جرحاً في الذات وأقرب إلى انهيار بكائيّ منه إلى أنانية الانعتاق.
يتطلّع القارئ والمشاهد إلى المنحنيات الإنسانيّة الصادقة في حياة الفنّانات لا شغفاً بنبش الفضائح بل لحاجةٍ إلى تعزية النفس، إلى التمثُّل، إلى الحلم، إلى التخفيف من شعوره بأنه وحده المنكَّل به أو وحده الخاطئ والناقص والمرتكب والزاني والخائن والضعيف والمزدوج الشخصيّة. لقد حلّ الفنّانون والفنّانات محل أنصاف الآلهة وأحياناً محل الآلهة، وكانت الآلهة وأنصافها يتّصفون بمثل ما يتّصف به عُبّادهم من جنح وجرائم، ويفوقونهم بالامتيازات المطلقة. البشر العاديّون يُبلسم جروحهم مشهد جروح الأسطوريّين.
سوف يُطلّ مسلسل صباح في رمضان. لقد تمنّتْ قبل تصويره أن تحظى بسيناريست يبلور قصّة حياتها بأقرب ما يمكن من حقائقها. حقائق لا صلة بينها وبين أخبار الصحف وإطلالات التلفزيون. لا نعرف كيف رست أمنيتها. يمكن الادّعاء أن حياة صباح ما وراء الصخب الإعلامي هي نقيض المتداول، وهي ملأى بما يصلح مادةً لفيلم هوليوودي سيكون حتماً أفضل من جميع أفلامها وأكثر وفاءً لشخصيّتها التي لم تُعطَ حقّها.
ردّدت الصحافة أن فيروز تدوّن مذكّراتها. هذا ما يقال منذ عقدين. نرجو أن يكون صحيحاً. ما أعطته في الماضي لبعض المجلّات من ذكريات لم ينطوِ على جديد. فيروز أشدّ الفنّانات غموضاً وأكثرهنّ التزاماً في أحاديثها، حتّى معظم أحاديثها الشخصيّة غير الإعلاميّة، بآداب «الكلام النموذجي». منتهى التحفّظ، المداومة على القول المأمون. تقول لك: لن تأخذ منّي شيئاً، دون أن تقولها، بل بالعكس تشعرك بأنّها كلّها هنا في ما تقوله. لسنا مع فيروز أمام مشروع مذكّرات كأيّ مذكّرات. نحن أمام تحدٍّ ضخم للذات، فإمّا أن تخرج الأيقونة من إطارها وتروي قصّة حياة امرأةٍ من لحم ودم في فنّانة من طفولة وأثير، وإمّا أن يستمر حديث الأيقونة. ما نأمله هو أن تحكي فيروز حكايتها بشفافية توازي شفافية صوتها. سيكون ذلك كنزاً مضافاً إلى الكنز.
■ جرس السين
كلّما لُفظ اسمي صدمني التناقض بيني وبينه. غالباً ما أذكر ـــــ لمكتب سيارات التاكسي مثلاً ـــــ اسم العائلة معتماً على اسمي الأول. بسبب حرف السين: يلعلع ويفقع، واللعلعة ترعبني. والياء التي ينختم بها تُلزم مَن يناديني بأن يتبنّى المعنى. كيف يرمي الواحد نفسه لمَن لم يطلبه؟
مناداة الشخص باسمه شكلٌ من أشكال العلاقة. وتمليك الآخر لكَ عن طريق مناداتك هديّة ملغومة لكليكما. وبالأحرى ظلمٌ لمَن يناديك. كان أبي يحبّ أبناءه إلى حدّ احتضانهم بأسمائهم غير عابئ بأنّه يُسمّينا للجميع. يجب أن يحقّ للمنادي إبدال الياء بالهاء أو حذف الضمير تماماً.
وفي جميع الحالات تبقى السين جَرَساً ملعلعاً. قالت العرب إنّها حرفُ التنفيس والتوسيع، وإنّها في الإثبات مقابلة لِلَنّ في النفي، وأنا والله ما علمت هذا يوم كتبتُ «لنّ»، ولو علمت لما تغيّر شيء. وهل أحقّ من المرء بتقويض اسمه؟ وبالسريانيّة يقال للسين «سمكات» ومعناها دعامة، ممّا يغري أكثر بالتقويض.
الأرجح أن أسماءنا تأتي معنا، بل الأرجح أنّها تأتي مع أبوينا ومن قبلهما أجدادنا. إنّها في ميراث الأجيال. وحين يكون الاسم مفاجأة قاطعة، ظاهريّاً، مع الماضي، يكون ذلك لأنّ الماضي نفسه قرَّر أن يقيم سهرة جديدة.
■ قوارب النجاة
ننظر إلى عينيه لنقيس الممثل. ننظر إلى عينيها لنعرف لغتها. ننظر إلى العيون دون سبب فهي ذاتها السبب. لكن العينين هما الشفتان أيضاً. مستحيل عينان بلا شفتين. كما تكونان تكونان. والعينان والشفتان جبين، العريض للعميقتين وللممتلئتين والضيّق للمزمومتين وللنحيفتين اللتين بلا ضفاف.
لا يمكن أن تكون العينان إلّا سوداوين. لا لونَ آخر لهما. الأخضر الأزرق البنّي العسلي الرمادي الأحمر، خداع، الأسود هو دائماً لونهما، وحوله الأبيض. لونا الماء بجميع ألوانه، والهواء السجين، والجمر، والخمر، والبخور، والأعماق، والمرتفعات تُشرق وتغيب.
تقول العينان ما لا يقوله الآباء لأبنائهم، ولا العرّافون للمقروءة أقدارهم. تقولان: «بعد قليل...». وللمدحور في وحشته: «خذ هذا القلب، هاتِ يدك!». لا تتعب الستائر في العينين من الانسدال ولا تتعب من الارتفاع، لا انسدالها يُغْلِق ولا ارتفاعها يُفضي.
ليس للعيون لون. ولا لون الروح. العيون هي ما تعشقه العيون، وهي ما تَعيشنا من داخلنا نحن الملتقين بها. تَطْلع بنا إلى سقفٍ لنا كان مجهولاً، تبعث برسائل لن تُترجَم مهما أمطرتْ وشمّست وعتّمت وتكرّرت، فرسائل العيون تفي بأدهش من وعودها دون أن يدري أحد كيف.
تختارك العيون كأنْ ليس لها أحدٌ غيرك، تُلقي عليك حملها ولا تسألها إلى أين. تعطيك حياةً لم يعد مهمّاً البحث عن معناها فهذا هو معناها أعطته إيّاك العيون الشاخصة إليك، ومعنى الحياة، تقول لك، هو أن تعشقها من خلالي. وهل تظنّ أن حرباً تقع تتعارض مع التمسّك بالحياة؟ أكثر حالات شغف العيش رأيتها خلال الحروب الطاحنة منذ 1975 إلى 1990. لم تُعْشَق الحياة ولا الناس كما عُشِقت وعُشقوا تلك الأيّام ولم يضيّع أحدٌ لحظة. وهل تتعارض الحياة مع الموت؟ الموت هو السوط الذي يلسع ظهرها لتجمح.
كلّما انفتحت العينان تفتّحت أكمام الجسد الباقية، تفتّحت عيون الفضاء الأزرق التي لا نراها لأنّ الكائنات صاحبة تلك العيون في منتهى الشفافية، تختفي من نقائها في أثير الفضاء، ولكنّها ترانا. نحن لا نراها، لكنّ العشاق والأطفال يُحسّون وجودها، لذلك ترفرف حولهم في النوم، ترتّب مخدّة هنا وتعطّر مناماً هناك. إنّها هي التي تجعل يقظتك مسرورة عندما تكون راضية عنك. القوّة التي تؤثّر إيجاباً في الكائنات الخفيّة هي الطاقة التي في العيون. عيون الوعد والشوق والجهوزيّة المجانيّة. العيون المشحونة بأكثر ممّا هي تعرف. هذه العيون الطليعيّة، لها الأولويّة عند أهل الفضاء الأزرق، ولها الإجلال والطاعة، لأنّها اللغة الوحيدة التي لم تَغْرَق، ولأنّه ليس لك غيرها، ولأنّها ليس لها غيرك.
عابرات
عريٌ يُحرّر ناظره وآخر يكبّله. عريُ الحسناءِ التامّ أكثر تهدئةً من بعض عريها. عريُ الرجل ظلامٌ صاخب.
■ ■ ■
الشرّير لا ينظر إلى أحدٍ حتّى لا يقفز قلبه إلى عينيه.
■ ■ ■
الذي لا يحظى بمعشوقة على قياس حاجاته تحظى هي به على قياس أوهامها.
■ ■ ■
النائمةُ واثقة، مؤجَّلَة إلى الصباح.
المؤرَّقُ يواصلُ حضوره دون أن يَحْضر أحد. مِن طول مساهرته تحلو عيونُ الليل.
■ ■ ■
أوقفِ التباهي بأحلامك عندما تكون المحلومةُ أجمل منها.
■ ■ ■
السمكة التي تُرْفَع من الماء لا تُبْصر صائدها بل آخر ذكرى لها تحت الماء.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد