مجموعة ميغال دي أونامونو القصصية.. تراجيديا هازئة تُظهره كاتباً مقيتاً وصاحب نكتة
تقول الحكاية ان الإسباني ميغال دي اونامونو، إبان تلقيه إحدى الجوائز الوطنية الأدبية من يد الملك ألفونسو الثالث عشر، شكره على منحه ما يستحق. فوجئ العاهل الإسباني بالموقف المعتدّ، ذلك ان اولئك الذين سبقوا اونامونو الى ملكوت الجائزة، أصروا على عدم استحقاقهم إياها. بيد ان ثقة الكاتب لم تتزعزع من جراء التصويب المباشر، إذ نطق الآخرون بالحقيقة فحسب في رأيه، ذلك انهم لم يستأهلوها فعلا، وليس استعارة.
الندرة دليلنا الى اونامونو الكاتب الخصب الى حد الافراط، والمتعدد وانما المتّحد عند دلتا المجاري التأليفية. في الفلسفة والبحث والدراسات الألسنية وأدب الرحلات والمقال والمسرح والشعر، ليس ثمة مؤلف أجاب مثله، عن نواة القلق في المرء. وليس من باب التهكم، ان نعلن ان ثيمة اونامونو الأثيرة هي اونامونو عينه، على ما توضح مجموعته القصصية الكاملة الصادرة قبل حين بالقشتالية لدى "باخيناس دي اسبوما".
مرت خمس وسبعون سنة على رحيل ميغال دي اونامونو، الروائي وعالم الألسنية والمفكر والرجل الذي أدرك انه فانٍ ليشتكي من عدم سرمديته. عبّر عن نهمه الى الخلود، عن جوع ضارب يشدّه اليه، هو الذي يشير في "عن إحساس مأسوي بالحياة" الى ان "ليس ثمة شيء أكثر كونية من الفرد، ذلك ان ما يمتّ الى كل واحد، يمتّ الى الجميع"، ليجعل من النزاع الذي يشكله وجودنا، واقعا اجتماعيا. ولد في بلباو في 1864 وتوفى في سالامانكا في 1936 في مطلع الحرب الاهلية الاسبانية، ليبين بين حدّي التاريخين والمدينتين، صوتا غير تقليدي ومستفزا، رغب في ان يحضن الأدب، "اكثر العواصف الفكرية حميمية". كانت الممارسة القصصية احد وجوه كاتب بلباو المجهولة او المجهّلة، الى الأمس القريب، في حين نميل الى ان نترقب، عفويا، ان يكون ميغال دي اونامونو عرّج صوب القصة القصيرة. عند تناول منجز اونامونو الادبي، لا يجري تقديم هذا النوع الى الصف الأول، غير ان مجلد قصصه الكاملة الصادر قبل حين، يؤكد ان هذا الصنف من النسيان لا يمكن ان ينال الغفران.
يلفت المتخصص في اثر اونامونو، اوسكار كاراسكوسا تينوكو، وهو معدّ المجموعة وواضع هوامشها، الى ان اونامونو لم يعر هو نفسه، هذا القسط من رصيده الاهتمام المرجو. غير ان الشبه بين شخوص قصصه القصيرة واولئك الذين يستوطنون رواياته، مسألة لا ترقى الى الشك، ذلك انهم جميعا يقتاتون من النخاع الروحاني عينه، يتأملون الطقس نفسه، وعندما يفعلون، ينساقون الى طراز مماثل من المشكلات. هؤلاء ابطال نظريون وغير محسوسين ومركبون يغتبطون لتفسير العالم. إنهم من شريحة الأبطال الذين لا يصادفهم المرء في الحياة، في هيئات ملموسة، بيد انهم يقبعون في داخل كل واحد، على الأرجح. اراد الكاتب البارز والمثقف الصميم، ان يرفد قصصه بالروح وليس الافكار فحسب. نراه يترك في ارجاء قصصه القصيرة كل الهرطقة والحرية الابتكارية وكل تماسك الفكر، وتلك نواح رفعته ليصير احد اكثر الكتّاب المحوريين في الأدب بالقشتالية. بدءا من خواتيم القرن المنصرم، استخدم قصصه القصيرة أداة لتأمل النظريات والملاحظات وتطويرها لينسحب ذلك على كل نص اتى بعدذاك.
تحتضن "المجموعة القصصية الكاملة" كل الحكايات التي نشرها اونامونو في الكتب كما في المطبوعات، الى جانب تلك غير المنشورة، لتتم الإحاطة بجسد قصصي متكامل. تبدأ مع الحكاية الاستهلالية، "الرؤية بالعيون" (1886)، وتصل الى "مأساة" (1923)، لتشمل الجردة الحسابية قصصا غير مؤرخة. يعثر القارئ في الطبعة المتطلبة، على اكثر من سبع وثمانين قصة تذكّر بالمنزل الابتكاري حيث ارتاح اونامونو، بل تؤثثه. تسمح بالإفادة من النثر النقي والاطلاع على نحو عميق على تطوره كاتبا. في القصص القصيرة، وأقدمها يعود الى 1886، ينبسط الألم ازاء الموت، ومعنى الحياة والايمان بالله واشكالية إسبانيا، على نحو حيّ ومعبّر اراد اونامونو من طريقه ان يعكس اللغة المحكية.
اما التجديد المحوري في الكتاب، ففي إضافة ثلاثة عناوين هي "بياتريس" و"رقص ايقاعي" و"الحب الخالد"، وتنتمي الى فئة عدّها الكاتب "الأكثر جحيمية وصدقا" في مساره، في حين لازمته أقل من سواها، للمفارقة. نشرت "الحب الخالد" في مجلة "الأعرج المصوّر" الفنزويلية في 1901، ليوردها اونامونو، بعد عقدين، في الفصل السابع من روايته "الخالة تولا"، ومحورها انهاك الأمومة. في تلك المعطيات الزمنية تكذيب موثق لجزم اونامونو انه من كتّاب الوحي الصرف والعفوية الخام. لم يكتب اونامونو تاليا كيفما اتفق، بضرب من الإلهام المباغت. كانت الصورة التي ساقها محض ادعاء.
في رصيد اونامونو كتاب قصصي وحيد بعنوان "مرآة الموت" يتوزع محتواه في ارجاء المجموعة. لا نلبث ان نعي مشقة اوسكار كاراسكوسا تينوكو الذي اشتغل ثمانية اعوام لإخراجها على هيئتها، وكيف انتقل في لحظات محددة، من ميدان التحقيق النقدي الى مطرح غير مألوف للنبش في العمق، كأنما ينقب في المغاور. ليست قصص اونامونو القصيرة معروفة بقدر الروايات، غير انها مفاتيح لإدراك فكر الرجل ومفهومه الخاص للآداب والتآلف مع باقي اثره. استحق جهد اوسكار كاراسكوسا تينوكو العناء في المحصلة، ذلك انه خرج بنسخة واضحة ومنظمة.
تظهر القصص حركية اونامونو السارد الذي ينجذب الى السخرية القارصة، فضلا عن الاشكالية الفكرية الاثيرة، الى الرصد الشخصي القريب جدا، في "حكايات العِبَر"، في حال اردنا اقتراض صيغة كلارين الذي يتضرع اليه اونامونو ادبيا. تتضمن المجموعة استفسارات وتقنيات مجددة كرمى حرية شخصية نزوية. تؤكد الثلة جدارة الحداثة. على الرغم من عمرها الذي يزيد على قرن، تتراءى لعبة الأدب عينه التي تختتم "مرآة الموت" ذات صلاحية.
اجتذبت القصة القصيرة اونامونو وراقته عفويتها واختصارها. والحال ان ثمة في وسط المجموعة توفيقا بين الأسلوب المضبوب والمساءلات الفلسفية والتهكم الاجتماعي. أقسم المؤلف الاسباني بفشل التقنية والعلوم وأي مثال يقتصر على الإثراء والإزدهار الأرضي ويرمي الى الكسب المادي. كان الموقف المكتوب مزيجا من مناهضة المنطق والإشتراكية البدئية، جاء بنتيجة تفكير ملي وبنبرة عميقة وشديدة الفخر. كان اونامونو مقيتا وانما صاحب نكتة، وفي ذلك ما يبرر التراجيديا الهازئة المنبسطة في قصصه القصيرة، ناهيك بأنه يهجس بالبقاء الى ما لا نهاية، بقائه الشخصي بلا ريب.
كان اونامونو زعيم جيل 98 الذي ضم أبرز الشخصيات الإسبانية عند مفترق القرنين العشرين والحادي والعشرين. أفضى مرة انه يريد الانتماء الى طراز كتّاب يعرفون كيف يخترعون حبوب الدواء والحقن العلاجية، على ان يكون من الممتع ان يتم تناولها. اراد ان يكون من صنف كتّاب يعرفون كيف يصقلون المرّ او المنفّر ليتراءى لمّاعا كأنه من ذهب. تلك احدى عادات اونامونو السيئة التي تعذر استباقها، وهي عينها التي جعلته يعبّر عن "أنا" محددة، مأخذوة الى صراع محتدم لا مفر منه. انه الصراع الضامن لمحافظة المرء على صلته بنفسه. انها الحياة في تناقض صادق.
رلى راشد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد