شاعر لكل البشر
ليس غريبا أن يتقاسم تلامذة المرحلة الإلزامية العليا (14 – 17 عاما) في مدن أسوج كافة، مع البالغين من الأسوجيين، فرحهم الثقافي، بقراءة نص صحافي، أعدته جريدة الأخبار التعليمية، المبسطة، المسماة "8 صفحات"، يتحدث عن فوز الشاعر توماس ترانسترومر بجائزة نوبل للأدب. تقريب الثقافة وتبسيطها وتعميمها ركن أساسي من أركان ديموقراطية الثقافة، والحجر الأساس في بناء المنهج التعليمي الأسوجي أيضا.
بيد أن المفاجأة تكون كبيرة حقا، حينما تطلب معلّمة قسم الصبيان المصابين ببطء التعلم والتأقلم، أن يقرأ التلامذة المهاجرون في هذا القسم ما كتب عن ترانسترومر.
- القراءة عنه ممكنة. لكن قراءة شعره أمر مشكوك فيه!
بيد أن ردّ المعلمة يأتي سريعاً:
- لكنه يكتب لكل البشر.
تفتح المعلمة الجريدة وتباشر قراءة نص الأكاديمية الأسوجية، التي أكدت أن وضوح اللغة (التناول والتعبير) مزيّة شعر ترانسترومر الكبرى. لكنها ليست مزيّة منفردة، لأنها تأتي مقرونة بالفكرة الإنسانية الثاقبة، الصافية، والعميقة، والاستعارات المضيئة.
قبل عقدين من الزمن أصيب الشاعر بجلطة دماغية أفقدته المقدرة على الحركة وسلبت منه ملكة النطق، لكنه منذ ذلك اليوم لم يكفّ لحظة واحدة عن التحليق عاليا، ولم يتوقف عن التغريد كل صباح.
لا يكتفي ترانسترومر، الخبير النفسي، بتحليل هوية الفرد في صلته بعالم متعدد، ما انفك قرّاؤه يسمعون أنفاسه الحارة، صاعدة نازلة، داخل حلم القصيدة، باحثة عن ألغاز النفس المحيّرة ولا متوقعات الطبيعة، بلقطات شعرية قصيرة، مليئة بما هو مثير، ولكن في ثوب "العادي والمألوف"، كما يقال عنه هنا، في أسوج. وهو اعتقاد تبسيطي في نظر بعض النقاد، الذين يؤمنون بوجود حياة أخرى خلف ظاهر النص الخادع. لأن ترانسترومر يكتشف العمق في قيعان البساطة: "أفتح الباب رقم إثنين. أصدقاء! إنكم شربتم الظلمة فغدوتم مرئيين".
الشعر الذي قرأه التلامذة كان بسيطا حقا، كان أقل صعوبة لدى التلامذة الأسوجيين، وربما كان لا يخلو من الجهد لدى التلامذة ذوي الأصول المهاجرة. ولكن، كيف يكون الأمر بالذين يجمعون الإعاقة التعليمية والاجتماعية وضعف لغة المهاجرين وسطحيتها؟
عدا كلمة واحدة، هي كلمة "ممرات"، كانت الصورة واضحة بطريقة غير متوقعة، واضحة كنبع الماء المتدفق. كان المقطع الشعري المقروء ينحدر على عيون الصبية، مثل انحدار السواقي الحرّة في الغابات الظليلة. سبب صعوبة كلمة "ممرات"، لدى الصبية المهاجرين، لا يكمن في ندرتها ووعورتها، بل يكمن في ثقافة المهاجرين ذاتها. فهم بحكم وجودهم غير المعمق تاريخيا وجغرافيا، لا يعرفون طرق الغابات الصاعدة أو النازلة، ولا يعرفون قاموسها اللغوي. لقد سحرتهم ضواحي المدن وسمّرتهم على طرقها المسفلتة.
- الله! من أين يأتي هذا العجوز بهذه الأفكار الـ... ساحرة!
- أنا أفهم كل كلمة، لكنني لا أدري كيف قام هذا العجوز بترتيبها على هذا النحو، الذي جعلني أفكر في شيء، كان من المحال عليَّ أن أفكر فيه من قبل.
هكذا يعبّر الصبية عن دهشتهم، وهم يسيرون يقظين في طرق الغابة الشعرية: "في الغابة، الضائع وحده، هو الذي يعثر على ممراتها غير المتوقعة". أو "توجد في الغابة فرجة غير متوقعة يعثر عليها فقط الضائع". أو "في الغابة يوجد ممر غير متوقع لن يعثر عليه سوى من ضلّ طريقه". أو "يوجد في الغابة ممر غير متوقع يعثر عليه من أضاع الطريق فحسب".
هكذا ترجموا الكلمات في أحاسيسهم ومشاعرهم، كل بطريقته، ولكن من دون أن يغفلوا مهمة اكتشاف الممرات السحرية، المغطاة بسيقان الصنوبر الجبلي!
نعم، إنه حقا شاعر لكل البشر!
قال عنه رئيس الاكاديمية الأسوجية بيتر انغلوند: "ترانسترومر أحد كبار شعراء العالم. لا أحد يكتب مثله، إنه صنف خاص قائم في ذاته. يجعل العالم أكثر غنى".
ترانسترومر شاعر خمسيني في ترتيب الأجيال الشعرية الأسوجية، لفت الأنظار اليه منذ مجموعته البكر "17 قصيدة" عام 1954، ووصف حينذاك بأنه شاعر شاب عبقري. ينسلّ إحساسه بالعظمة الدينية من خلال الاقتراب من حلم الإنسان والطبيعة الريفية الأسوجية، محررا بها صلواته العلمانية. إنه شاعر يعبّر عن المواقف المعقدة بلغة واضحة، ذات استعارات مضيئة. "صوره المكثفة والشفافة تمنحنا إمكاناً جديداً للوصول الى الحقيقة"، على قول الأكاديمية في كلمة إعلان الجائزة.
حينما قرر معلم للعلوم الطبيعية في إحدى ضواحي ستوكهولم أن يرتكب حماقة مركّبة، ثقافية وعلمية وتعليمية، لم يجد أفضل من ترانسترومر لتنفيذ هذه المكيدة الغريبة. طلب من التلامذة أن يكتبوا عن الجزيئات والذرات وأشياء أخرى معقدة، ولكن شعرا خالصا!
ثمّ جمع الأشعار الفيزياوية، وصنع منها معرضا فيزياشعريا. لم يكتف بذلك، بل طوّر حماقته بأن وجّه دعوة الى الشاعر العجوز المعاق، الذي ترجمت أشعاره الى ستين لغة، لكي يحضر افتتاح المعرض المقام في المدينة الصغيرة، التي تبعد 40 كيلومترا عن وسط ستوكهولم، ولكي يستمع الى شعر الذرات والجزيئات الصبياني.
كانت مفاجأة للجميع حينما وجدوا، عند افتتاح معرض الشعر الفيزياوي، عجوزاً على كرسي متحرك، يستقبل الفتية المبهورين، فيجعلهم يتقابلون وجها لوجه مع الروح البشرية الشاعرة، التي اسمها ترانسترومر. من أجل تلك اللفتة الإنسانية البارعة وحدها، التي تعكس روح الشاعر الحقيقية "يستحق ترانسترومر جائزة نوبل للآداب"، هذا ما عبّر عنه بعض الأسوجيين، حينما وجدوا أن وضوح الطريق الى الحقيقة لم يكن مزروعا في كلمات الشاعر وحدها، بل في روحه أيضا.
نعم، يستحقها. لذلك لم يذهب اليها، بل هي التي ذهبت اليه، جاءته صاغرة، طائعة، وجلست تحت قدميه الواثقتين.
شعراؤنا، الذين تسارعوا للاقتراب من ابن نوبل، ترانسترومر، تبركا به وبالجائزة، نسوا أن هذه اللعبة الثقافية الخطيرة ذات حدّين: دعاية به، ودعاية له، ترويج به، وترويج له.
على كل حال، لم يمش ترانسترومر، قعيد الكرسي المتحرك، زحفا الى عرش نوبل، ولم يطلق لسانُه المكبّل استغاثات النجدة وبيانَ الحقوق المشروعة أو غير المشروعة المطالبة بنيل الجائزة. جاءت جائزة نوبل اليه بنفسها. جاءته حينما وجدته في كرسيّه المتحرك ولسانه المعتقل يطير مغردا بأربعة أجنحة: وضوح اللغة، عمق الفكرة وصفائها، إنسانية الإحساس بالوجود الفردي والطبيعي، بالإضافة الى تكالب الشعراء على الجائزة.
أقول لشعرائنا: لكي نعرف أوروبا جيدا، علينا أن نفهم جيدا مفاهيمها الأخلاقية، ومقاييسها الروحية، والسياسية أيضا. من دون ذلك، ستضل أقدامنا الطريق ونحن نبحث عن الممرات غير المتوقعة، في الغابة الحجرية.
"الحقيقة توجد على الأرض، ولكن لا أحد يجرؤ على أخذها، الحقيقة توجد في الشارع، ولكن لا أحد يجعلها له".
سلام عبود
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد