الاعترافات التلفزيونية بين الواقع والقانون

25-10-2011

الاعترافات التلفزيونية بين الواقع والقانون

الجمل ـ عبد الله علي: منذ بداية الأزمة في سوريا، وهناك سياسة متبعة لدى الفضائية السورية تقضي بعرض أشخاص وهم يعترفون علناً بارتكابهم جرائم مختلفة كالقتل والخطف والابتزاز وكذلك المساهمة في التضليل الإعلامي من خلال نشر مقاطع فيديو غير حقيقية مقابل مبالغ مالية وأيضاً الاتصال بجهات خارجية بهدف زعزعة الأمن الداخلي وغيرها من التهم الأخرى.
ويمكن أن نلاحظ تزايد أعداد الأشخاص الذين يدلون باعترافاتهم أمام كاميرا الفضائية يوماً بعد يوم، وأحياناً يكون بين هذه الاعترافات الغث والسمين، لكن لا يمكننا إنكار تأثير هذه الاعترافات على الرأي العام السوري والعربي خاصة إذا صدرت عن بعض الأشخاص الذين كانت لهم مراكز حساسة ومؤثرة في تفاعل الأحداث ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال الشيخ الصياصنة والضابط هرموش وآخرين.
وقد انقسم الرأي حول هذه الاعترافات كما انقسم حول كل شيء آخر في ظل الأزمة التي تمر بها البلاد، فالمعارضة تعتبرها ملفقة ومفبركة ومأخوذة تحت الضغط والإكراه ولا يمكن الاعتداد بها، أما الموالاة فإنها تعتبرها دليلاً جدياً يثبت وجود العصابات المسلحة وتورطها في أعمال القتل والعنف. والحقيقة أن كلا الرأيين يتضمن شيئاً من الصحة إذا نظرنا إلى الموضوع على أنه مجرد اعترافات، أما إذا وضعنا هذه الاعترافات في قلب المشهد أو في إطار الحرب الإعلامية المتبادلة فسوف يكون هناك تقييم مختلف لهذه الآراء، وهذا ما سوف نناقشه في هذه المقالة.
فمن حق المعارضة أو القائمين على الثورة أن يدَّعوا أن هذه الاعترافات مأخوذة بالإكراه وتحت التهديد، وقد يبدو هذا الادعاء جدياً لاسيما إذا أشاروا إلى أن من يقوم بالتحقيق مع هؤلاء هو "الأمن" وليس القضاء وأن تحقيقات الأمن تحتاج إلى ضمانات قانونية غير متوفرة. وهذا كلام صحيح من حيث المبدأ ويمكن أن نزيد عليهم بالقول أنه حتى القضاء السوري رسخ اجتهاداً قضائياً هاماً يقضي "بعدم الأخذ بالاعترافات التي يدلي بها المتهم أمام أجهزة الأمن" حتى لو لم يُمارس عليه -أي على المتهم- أي ضغط أو تهديد لأن القضاء رأى أن مجرد دخول المتهم إلى مبنى جهاز أمني يخلق لديه شعوراً بالخوف والرهبة مما يؤثر على أقواله ويجعل اعترافاته غير مقبولة. فادعاء المعارضة لهذه الجهة ومن حيث المبدأ معقول.
ولكن من جهة أخرى يمكن أن تبرز الكثير من الاعتراضات التي تقول أن الاعترافات التلفزيونية لا تخضع للمبدأ السابق القاضي بعدم قبول هذه الاعترافات بذريعة تعرض صاحبها للتهديد والإكراه. ويحتج هؤلاء بأن بعض الأشخاص يدلون باعترافات قد تؤدي بهم إلى حبل المشنقة، وبالتالي فإن أي ضغط أو تهديد لا يمكن أن يساوي الضغط والتهديد الذي يسببه الموت شنقاً، فهل يعقل أن يهرب شخص من الضغط أو حتى التعذيب الممارس عليه ويلقي بنفسه في تهلكة الإعدام. وكذلك يقول هؤلاء أن بعض الأشخاص الذين أدلوا باعترافاتهم كانت لهم مراكز حساسة وأهمية خاصة والمفترض أنهم يدركون هذه الحيثيات لاسيما وأنهم كانوا يطرحون أنفسهم "ثواراً" شعارهم "عالجنة رايحين شهداء بالملايين" أي أن لديهم قضية يؤمنون بها ومستعدون لدفع حياتهم ثمناً لها، فكيف يمكن القول أنهم أدلوا باعترافاتهم خوفاً من الضغط أو التهديد؟. ويشيرون أيضاً إلى ضرورة التمييز بين الاعتراف أمام أجهزة الأمن وبين الاعتراف أمام شاشة الفضائيات، ويرون أن الاعتراف أمام الأمن يمكن أن يقود إليه الضعف الإنساني في لحظة من اللحظات باعتبار أن عواقبه قانونية فقط، أما الاعتراف أمام الشاشة فينبغي أن تكون له حسابات أخرى لأنه إضافة إلى العواقب القانونية يترتب عليه عواقب اجتماعية وإعلامية وأخلاقية بعيدة المدى بحيث لا يمكن أن يدفع الضعف الإنساني إليها بسهولة.


*****

ومن حق المعارضة أن تدَّعي أن هذه الاعترافات مفبركة وغير حقيقية، بمعنى أن الأشخاص الذين تعرضهم الفضائيات هم مجرد "ممثلين" استخدمتهم السلطات كي تثبت وجود العصابات المسلحة أمام الرأي العام. وبالتالي فإن هذا الرأي لا يتحدث عن ضغط ولا إكراه لأنه يعتقد أن عملية الاعتراف هي تمثيلية درامية من أولها إلى آخرها وينسف مصداقيتها من الأساس. وهذا رأي وجيه لأنه يدعي أن السلطات صاحبة مصلحة في اختلاق هذه الاعترافات وبثها على الفضائيات وأنها وحدها المستفيدة منها لاسيما لجهة إثبات روايتها عن العصابات المسلحة والأعمال الإرهابية.
 ولكن رغم وجاهة هذا الرأي فمن الممكن أن تقوم بوجهه الكثير من الاعتراضات المخالفة والتي لا تفتقر إلى الوجاهة أيضاً بل قد تزيد عليه. حيث يمكن القول أن على المعارضة عندما تدَّعي مثل هذا الادعاء أن تنفي أي علاقة بينها وبين الأشخاص الذين يدلون باعترافاتهم لأن الفرضية أن هذه الاعترافات تمثيلية وليست حقيقة وأن الأمن عندما يريد أن يفبرك فإن لديه أشخاص كثيرون يتعاونون معه في هذا الموضوع، فهل الأشخاص الذين يظهرون على الشاشة هم من المعارضة أم لا؟ نحن ثبت عندنا بشكل يقيني أنهم من المعارضة وإلا ماذا كان الضابط هرموش مؤسس لواء الضباط الأحرار وماذا كان الشيخ صياصنة وماذا كان خاوندي وغيرهم؟ وبما أن هؤلاء من المعارضة فإن الادعاء بالفبركة يغدو غير منطقي لأننا لا نتصور أن يتعاون الشيخ صياصنة أو الضابط هرموش في تمثيل اعترافات مفبركة لمصلحة الأمن، مما يسقط الوجاهة عن هذا الادعاء لأن التمسك به من قبل المعارضة يؤدي إلى تشويه سمعة الأشخاص المعترفين والمساس بشخصيتهم وإيمانهم بقضيتهم أكثر مما يؤدي إليه الادعاء بالإكراه والتهديد.
ويمكن القول أيضاً، وبغض النظر عما سبق، أن هذه الاعترافات التي تصدر عن أشخاص معروفين بالاسم والصورة ويظهرون على التلفاز بشكل حي، أفضل من تصريحات شهود العيان التي تمتلئ بها الفضائيات العربية ولا نعرف اسم صاحبها ولا نرى صورته. فهذه الاعترافات بأدنى حال هي تصريحات إعلامية لأشخاص معروفين بالاسم والصورة يتناولون فيها الأحداث الجارية ويروون بعض ما يعرفونه، وبالتالي لا يختلفون عن شهود العيان الذين تعتبرونهم حجة فيما يقولون وينقلون. فإذا كان المنطق لديكم يسمح بقبول شهادة شهود العيان فسوف يكون من التعسف ألا تقبلوا شهادة هؤلاء. بل هؤلاء أجدر بقبول شهادتهم والأخذ بمحتواها ومضمونها لأن من الممكن محاسبتهم سواء اجتماعياً أو أخلاقياً أو حتى قانونياً في حال ثبت كذبهم أما شهود العيان فإنهم يعملون خارج إطار المسؤولية بسبب هويتهم المجهولة. ولا يستخفنَّ أحد بموضوع المسؤولية أو المحاسبة لأن المعارضة تتحدث عن مرحلة لاحقة سوف تستلم بها زمام الحكم وبالتالي سيكون بإمكانها أن تلاحقهم، فهل ستلاحق المعارضة الشيخ صياصنة أو هرموش في ذلك الوقت لأنهم أدلوا باعترافاتهم؟ أليس هذا كافياً لدحض إدعاءات المعارضة حول الفبركة والتلفيق؟.
وهكذا نرى من النقاش السابق أن وجهة نظر المعارضة رغم أهميتها ووجاهتها لم تستطع أن تثبت أمام الاعتراضات التي طرحت عليها وبدت غير متماسكة وغير مبنية على أسس سليمة، مما يدفعنا إلى القول في الختام أن المنطق يلزمنا باعتبار الاعترافات التلفزيونية صحيحة وأن نرتب عليها كافة الآثار القانونية والاجتماعية والأخلاقية التي تنتج عنها.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...