الأدب العربي بالانكليزية يزداد ولا إقبال
يزداد عدد الكتب العربية المترجمة إلى الإنكليزية في بريطانيا باطرّاد، لكن الإقبال على الكتب المترجمة من أي لغة لا يذكر. يدعى الكتّاب العرب إلى الندوات، ويراجع بعض الصحف الرئيسة أعمالهم، لكن كثيرين منهم لا يشعرون بفارق في مبيع كتبهم أو شهرتهم خارج إطار النشر والإعلام. على أن العرب ينتقلون من التمنّي إلى الفعل، ويشاركون في مشاريع متنوعة ويموّلونها. بعد «تقدح شرراً...» لعبده خال، الكاتب السعودي الفائز بالجائزة الدولية للرواية العربية في 2009، تترجم دار بلومزبري- مؤسسة قطر للنشر «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، الكاتب المصري الأكثر مبيعاً. توفيق (49 سنة) مدرّس طب في جامعة طنطا، وتحدّث الشهر الماضي في ندوات في لندن وبريستول وجامعة كمبريدج عن «يوتوبيا» ومؤلفاته في الفانتازيا والرعب التي تبلغ نحو مئتين. وفّق تشيب روسيتي في تحقيق ترجمة سلسة، رشيقة، غربية الوقع وحرّة من النقاط الثلاث التي تحفل الرواية بها للأسف. نشرت «يوتوبيا» مسلسله في صحيفة في 2006 ثم صدرت عن دار ميريت بعد عامين، وجمعت بين الغرائبي والواقعي الذي يتكرّس قتامه بإحصاءات عن ازدياد الجرائم والبطالة والإدمان والاغتصاب.
تدور أحداث «يوتوبيا» عام 2023 في مصر المنقسمة بشكل حاد إلى «آخرين» فقراء وأثرياء يعيشون في أرض مسوّرة على الشاطئ الشمالي بحماية حرّاس معظمهم من جنود البحرية الأميركيين السابقين. تغلّب سكان «يوتوبيا» على الأمراض، ونسوا الحروب، ونادراً ما قتل أحد في حوادث الصدام القليلة أصلاً. جلب الرخاء الضجر الذي حاربه الشباب بوسائل كرّست سهولتها دائرة حياتهم الخبيثة. أضعفت سهولة الحصول على المخدّرات والجنس الإشباع المرتجى منهما، فتبنّى الشباب سباق السيارات الخطر الذي يذكّر بمثيله في «ثائر بلا قضية». يصغون إلى «أغاني الرعشة الجسدية» التي تتحدّث عن جماجم الأطفال ونهوض الشياطين من القبور وتحوّل سندريللا عاهرة. في الرواية صوتان لصياد من يوتوبيا يقول إن اسمه علاء وطريدة من منطقة المعوزين المحيطة نعرف أنه يدعى جابر. يسرّع لقاء الاثنين الأحداث ويخالف ما قد يتوقّعه القارئ في أول الرواية.
تغيب القيم عن يوتوبيا، التي تعني المكان الخيالي الكامل الأوصاف، ويزايد الراوي «الصياد» بغرائبيته التي يريد الصدم منها ولا ينجح. يعمل إسرائيليون و «آخرون» في يوتوبيا، ولئن عاش الأولون فيها وعوملوا كأصدقاء، غادرها الفقراء كل مساء إلى منطقتهم حيث تسيطر القذارة والجوع والمرض والبطالة والدعارة والعنف ضد النساء. تطارد الهيليكوبتر المتسللين الفقراء من «الآخرين» وتقتلهم في تكرار لمشهد من فيلم «بلاتون» يفتن «علاء». تناول جيلان منهم الأطعمة الغنية بالهورمونات فضعفت خصوبتهم، لكن نسلهم تجاوز قدرتهم على العيش وإن اقتصر على اثنين. لا أحد يستطيع أن يحدّد متى انقسمت مصر بهذا الحسم إلى طبقتين. «لا يمكنك أن تحدّد لحظة بعينها... فقط تذكّر أن الوضع كان يسوء بلا انقطاع... لذا كان المرء يغمض عينيه ويقول: أهي عيشة... إذن فليكن غد. ثم تصحو ذات يوم لتدرك أن الحياة مستحيلة... وأنك عاجز عن الحصول عن قوت يومك أو مأوى!» انقرضت الطبقة الوسطى، صمام الأمان الذي يمنع الانفجار، وتأثّر المعوزون بحاجتهم وأمراضهم حتى صعب التصديق أنهم بشر كاليوتوبيين. يؤمن جابر باستحالة الثورة: «هؤلاء مجرّد خراف. هل سمعت من قبل عن خرافٍ غاضبة؟ هم فقدوا القدرة على الغضب وعلى كل شيء».
ابتكر عالم أميركي مادة جديدة للطاقة تدعى بيرويل ففقد ما تبقى من نفط البلدان العربية قيمته، وطردت هذه العمال المصريين ففقدوا مورد الرزق الوحيد. الأهل وحدهم في يوتوبيا يواظبون على الصلاة لخوفهم من خسارة كل شيء في لحظة واحدة، غير أن الجيل الشاب تخلّى عن «هذه العادة». ينادي «علاء» والديه باسميهما متبنّياً عادة أميركية ظهرت في الستينات، فلا يخترع جديداً لكنه يبالغ في احتقار الأهل وتأكيد نفعية العلاقة. يحصل على الكتب «البائدة» من سليم بيه، رئيس تحرير الصحيفة الوحيدة في يوتوبيا، ويثير استغرابه بإقباله على المطالعة جاهلاً أنه يعتبرها مخدّراً رخيصاً. يتفّق جابر مع غريمه في هذا التعريف للكتب، لكنه لا يفقد إنسانيته على رغم بشاعات حياته المحاصرة خلافاً للثري الذي يقرف منهم كما لو كانوا جنساً آخر. يقول إنهم يتظاهرون بأنهم أحياء وبشر، وإنه لو كان منهم كان ترك السيارة تدهسه، علماً أنه يرى الانتحار مبتذلاً لليوتوبيين، ويجد متعة في معاناة «الآخرين».
يواجه علاء، ابن السادسة عشرة، مفارقة حياته المتخمة الخاوية بطلب المزيد من الإشباع ولا يحصل عليه إلا موقتاً. يمزج مخدّر فلوغستين القوي بعصير الليمون ويبيعه، لكنه لا يستهلك إلا ذلك الأصلي الذي يرى معه ألسنة النار الخضراء. يلوّن رتابة أيامه بالتخويف شكلاً ومضموناً. يريد وجهه قناعاً مرعباً بالجرح الكبير المصطنع الذي أضافه طبيب إسرائيلي إلى جبينه، والعدستان اللتان تظهران بؤبؤ عينيه بيضاوين، وأسنانه المصبوغة أحمر وأصفر وأزرق، والحلقات في أنفه وحاجبيه، وشعره المحلوق على الجانبين، المرتفع في الوسط على طراز الهنود الموهوك. نام مع كل الفتيات اللواتي أعجبنه وتسبّب بحمل بعضهن، مفاخراً بأن المخدّرات لم تؤثر على خصوبته الشديدة. يقول إن السأم يجعل الرجل سادياً وعنيفاً في الجنس، وتشمل طقوس صباحه النوم مع الخادمة الأفريقية وتناول اللحم والكحول وتعاطي المخدّرات ثم التقيؤ المقصود على السجادة في غرفة والدته.
يترك علاء وجرمينال، إحدى صديقاته، يوتوبيا في حافلة العمال «الآخرين» العائدين مساء الى منطقتهم لاصطياد فقير وقتله وقطع تذكار من جسده. يختار بنت الهوى سميّة، لكن شباناً يدركون أنه وصديقته من يوتوبيا فينقذهما جابر، الجامعي العاطل من العمل الذي أفقده عمّ سميّة وقوّادها النظر في إحدى عينيه، وشوّه وجهه. على رغم كراهيته أهل يوتوبيا، يعجز جابر عن ارتكاب الأذى، ويساعد الاثنين على الهرب مع أنه «يعرف» أنه سيموت بعد يومين أو ثلاثة. يعيش مع شقيقته صفية المصابة بالسلّ، ويقول إنه لن يموت ليتركها وحدها تعيش من السرقة أو هزّ مؤخرتها لتبيع الشيء الوحيد الذي تستطيع بيعه. يرسم أحمد خالد توفيق الصياد جيداً لكن دافع جابر يبقى غامضاً وغير مقنع. ينجح ابن يوتوبيا في إثبات تفوق أهلها على الفقراء وامتلاكهم القدرة على البقاء على رغم تخمتهم وحلاوة حياتهم. يحذّر الكاتب الكادحين من احتكار مستغلّيهم صلاحية العيش، لكنه ينهي كتابه بإرهاصات ثورة تردّ على جريمة علاء، وتتجاوز الفرد إلى يوتوبيا كلها.
مودي بيطار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد