هرمن هسّه: إدموند
كان إدموند شاباً موهوباً من عائلة كريمة. وعلى مدى سنوات عديدة بقيَ الطالب المُفضَّل لدى البروفسور زركل الذي كان حينئذٍ ذائع الصيت.
كانت الفترة المُسمّاة بفترة ما بعد الحرب تقترب من نهايتها. وكانت الحروب العظمى، وازدياد عدد السكان، والاختفاء التام للأخلاق والدين قد أضفى على أوروبا الوجه اليائس الذي نشاهد تقريباً في اللوحات كلها التي تمثِّل شخصيات من ذلك العصر. ولم تكن الفترة المعروفة بـ " المولد الجديد للعصور الوسطى " قد بدأت في الواقع، لكنَّ الأفكار والقِيَم التي تمتعت بمصداقية واحترام عالميين على مدى أكثر من مائة عام كانت تهتز، وبدأ مقت تلك الفروع من المعرفة والنشاط التي كانت المُفضَّلة منذ بداية القرن التاسع عشر يتَّسِع أكثر فأكثر. كان الناس قد سئموا الأساليب التحليلية، والتكنولوجيا كغاية بحد ذاتها، والتفسيرات المنطقية، ومشهد العالم العقلاني الضحل، المرتبط بأسماء مثل داروين، وماركس، وهيغل، التي هيمنت على الثقافة الأوروبية حتى قبل بضعة عقود. في حلقات متقدّمة كتلك التي انتمى إليها إدموند، كان الموقف السائد هو الملل، انعكس في نقد الذات الشكوكيّ، المُحبَط، الذي لا يخلو تماماً من الغرور. وقد تمادى أولئك المثقفين إلى درجة أنهم أصبحوا يحتقرون أنفسهم وأساليبهم المعتادة. أصبحوا يُظهرون اهتماماً متعصّباً بدراسة الأديان، التي في ذلك الوقت كانت متطورة جداً. لم يعودوا، كما في السابق، ينظرون الأديان السابقة في المقام الأول من وجهة نظر تاريخية، أو اجتماعيّة، أو فلسفيّة، بل حاولوا أنْ يخترقوا واقعهم الفوريّ، الآثار النفسية والسِحرية لأشكالها، وصورها، واستخداماتها. ولكنَّ الرجال والأساتذة الأكبر سناً استمروا في التحرُّك مدفوعين نوعاً ما بالفضول المتحرّر للعالِم الصِرف، بقدرٍ من الاستمتاع بالجمع، والمُقارنة، والشرح، والتصنيف، وزيادة المعرفة ؛ أما الأصغر سناً فكانوا يقومون بتلك الدراسات بروحٍ جديدة. فهم لم يكونوا فقط يوقّرون مظاهر الحياة الدينية، بل كانوا في الواقع يشعرون بالحسد منها. كانوا عطشى إلى معرفة المعاني الخفيّة للعبادات والصيَغ التي نقلها التاريخ إلينا، وبثّت فيهم رغبةٌ سريّة – وسط تردُّد بين شعور بالملل من الحياة واستعداد للإيمان – لكي يبلغوا جوهر الدين، لكي يُحققوا إيماناً وحالة ذهنيّة تمكّنهم، كما فعل أسلافهم البعيدين، من العيش بنضارة وغِنى انبثقا من ممارسات دينية والأعمال الفنيّة للعالم المُبكِّر.
كانت قصة أستاذ الجامعة[1] الشاب في ماربرغ، الذي باشر بكتابة أُطروحة عن حياة وموت الشاعر الورِع نوفاليس، حديث المدينة. وكما نعلم، قرر الشعر نوفاليس، بعد وفات خطيبته، أنْ يلحق بها بالموت. وبما أنه كان شاعراً ورِعاً، لم يلجأ لفعل ذلك إلى الوسائل الميكانيكية كالسُمّ والسلاح الناري، بل استدرجَ الموت ببطء بأساليب نفسية وسِحرية محض. ومات وهو في عزّ شبابه. ورغب الأستاذ الجامعي، وهو تحت تأثير تلك الحياة وذلك الموت، في أنْ يحذو حذو الشاعر ويموت باللجوء إلى المُحاكاة النفسية الصِرف. لم يدفعه إلى ذلك سأمه من الحياة بقدر ما كانت رغبة في إنجاز معجزة، أي، رغبة في التأثير في الحياة المادية والتحكُّم فيها عبر قِوى الروح. وهكذا عاش مُحاكياً الشاعر ومات مثله قبل أنْ يبلغ الثلاثين من العمر. وجذبت القضية الانتباه وأدان الأستاذَ الجامعيَّ كل المُحافظين الأكبر سناً وأولئك الشبان الذي كانوا راضين باللهو وبالملذات المادية في الحياة. ولكن يكفي كلاماً عن هذا ؛ إنَّ هدفنا ليس تحليل تلك الفترة الزمنية، بل فقط إعطاء فكرةً عن المزاج والحالة الذهنية اللذين كانا سائدَين في الحلقات التي انتمى إليها الشاب إدموند.
كان يدرس علوم الأديان تحت إشراف البروفسور زركل. كان مُهتما حصراً تقريباً بتلك الممارسات الدينية من ناحية، والسِحرية من ناحية أخرى التي حاولت شعوب العصور الغابرة بوساطتها أنْ تُنجِز الهيمنة الروحية على حياتها وتحصَِّن الروح الإنسانية في وجه الطبيعة والقَدَر. لم يكن، كأستاذه، مهتماً بالناحية الفِكرية والأدبية للأديان، أو بما يُسمّى فلسفاتها. ما حاول أنْ يسبر أغواره ويفهمه كان الطقوس، والممارسات، والوصفات التي تُطبَّق مباشرة في الحياة : القوة السِحرية للرموز والأسرار المقدسة، وتقنيات التركيز النفسي، ووسائل استفزاز حالات الإبداع. والطريقة السطحية التي فسَّر بها قرنٌ كامل من الزمن تلك الظواهر بأنها زُهد، وتطهُّر، ورهبانيّة، وتنسّك، أفسحت الطريق منذ زمن بعيد للدراسة الجادّة. في تلك الأثناء كان إدموند يُتابع حلقة دراسية خاصة تحت إشراف زركل. وبالإضافة إليه لم يكن هناك إلا طالب واحد. وكانت تلك الحلقة مُخصّصة لدراسة وصفات سِحرية وتعاليم هندوسية معيَّنة كانت قد اكتُشِفَت مؤخّراً في شمال الهند. وكان اهتمام البروفسور في المادة عِلمياً صِرفاً ؛ جمع تلك الظاهرة وصنّفها كما يمكن لإنسان عادي أنْ يجمع الحشرات. لكنه كان على وعيّ تام بأنَّ تلميذه إدموند انجذبَ إلى والوصفات السِحرية والصلوات بدافعٍ مختلف كثيراً، ولاحظَ أيضاً أنه بفضل ورع الطالب الشديد استطاع أنْ ينفذ إلى أسرار معيَّنة أفلتت من الأستاذ. وأمِلَ في أنْ يحتفظ بذلك الطالب معه على مدى سنوات طويلة لكي يجعله مُساعده.
انهمكا في فك شِفرات، وترجمة، وتأويل تلك النصوص الهندية المقدسة، وكان إدموند قد ترجم تواً أحد النصوص كما يلي :
"إذا شعرتَ بسَقَم روحك ولم تعُد تعرف نفعها في الحياة، وتمنيت أنْ تعرف ما تحتاج إليه روحك وتمنحه لها : فأفرغ قلبك، واحبس أنفاسَك قدر استطاعتك، واجعلْ قلبك ككهفٍ خالٍ، ووجِّه تحديقك إلى ذلك الكهف، وركّز على التفكير فيه. وفجأةً لن يعود الكهف خالياً وسوف ترى فيه صورةَ ما تحتاج إليه الروح لكي تستمر في الحياة"
قال البروفسور، وهو يهزّ رأسه مُستحسناً" ممتاز. ولكن أعتقد أنَّ كلمة "وفَقَدَتْ" سوف تكون أدقّ من كلمة "ونسيت". ثم هل لاحظت أنَّ كلمة "كهف" كان يستخدمها أولئك الكهنة الدُهاة أو الأطباء استخداماً سِحرياً مكان كلمة رحِم؟ في الواقع لقد نجح أولئك الناس في تحويل مجموعة من الإرشادات الجافة من أجل شِفاء الكآبة إلى وصفة سِحرية. لابد أنَّ هذه الوصفة التي تقول – مار بيغيل ترافو غنوكي - التي تُذكِّر بوصفة الأفعى الضخمة السحرية لابد أنها بدت لأهالي البنغال الفقراء الذين تريد أنْ تخدعهم شديدة الغرابة ومُخيفة! طبعاً، لا شيء جديداً في الإرشادات بحد ذاتها: في إفراغ القلب، وتخفيض الأنفاس، وتوجيه التحديق نحو الداخل. هذا كله صُمِّمَ في مكان آخر بدقّة متناهية، في النص رقم 83، على سبيل المِثال. حسن، يا إدموند، أعتقد أنَّ رأيكَ سوف يكون مختلفاً كل الاختلاف كالمعتاد. ما رأيك ؟ "
قال إدموند بصوت منخفض "سيدي البروفسور، أعتقد أنك في هذه الحالة تُقلل كثيراً من قيمة الوصفة نفسها ؛ إنَّ الشيء الأساسي هنا ليس تأويلاتنا الرخيصة للكلمات، بل الكلمات نفسها. وبعيداً عن المعنى المُجرَّد للنص، يجب أنْ يكون هناك شيء آخر، النبرة، اختيار الكلمات النادرة والعتيقة، والتداعيات التي تُثيرها ذكرى الأفعى المسحورة – هذا كله معاً منحَ النصّ قوته السِحرية"
قال البروفسور، وهو يضحك، " إذا كانت تتمتع حقاً بأي قدرٍ منها فمن المؤسف أنكَ لم تكن حينئذٍ قد وُلِدتَ بعد، عندما كانت هذه النصوص لا تزال حيّة. وإلا لوقعتَ بصورة رائعة تحت تأثير فنون سِحر الذين كتبوا هذه النصوص. ولكن للأسف أنتَ أتيتَ متأخّراً عدّة آلاف من السنين، وأنا راغب في المراهنة على أنكَ مهما حاولتَ أنْ تطبِّق الإرشادات التي قرأتَ تواً، لن تصل إلى أية نتيجة "
ثم التفت نحو الطالب الآخر بروح عالية جداً وتابع تفسيراته المُثيرة للاهتمام.
في تلك الأثناء أعاد إدموند قراءة نصّه مرات عِدّة ؛ لم تكن الكلمات الافتتاحية قد تركت عنده أثراً يُذكَر، لأنها بدت تنطبق عليه وعلى وضعه. كلمة فكلمة، راح يتلو الوصفة في نفسه، مُحاولاً في الوقت نفسه أنْ يُطبّق إرشاداتها:
"إذا وجدتَ أنَّ روحك مُصابة بالسأم ونسيَتْ رسالتها في الحياة، ورغبتَ في معرفة ما تحتاج وتمنحه لها: أفرِغ قلبك، واحبس أنفاسك إلى آخره.."
كان في وسعه أنْ يُركِّز أكثر من المحاولة الأولى. تبع الإرشادات ؛ أنبأه إحساسه أنَّ اللحظة المناسبة حانت، وأنَّ روحه مُعرَّضة للخطر ونسيتْ شيئاً هاماً.
فور مباشرة التنفُّس على طريقة اليوغا، التي كان كثيراً ما يُمارسها، شعر بتغيير يحدث داخله. ثم شعر بفجوة صغيرة في رأسه؛ صغيرة ومُظلمة؛ كان في استطاعته أنْ يراها. أخذ يوجّه، بشغف متزايد، انتباهه إلى الفجوة التي بحجم ثمرة الجوز، أو "الرحم". أخذ البريق يتزايد بالتدريج، وداخل الفجوة أخذ يُميِّز بوضوحٍ مُطّرد صورة َ ما ينبغي أنْ يفعل لكي يستمر في الحياة. لم تُخِفه الصورة؛ ولم ينتبه ولو للحظة الشك في أصالتها؛ شعَر في أعماق روحه أنَّ الصورة صحيحة، وأنها لا تكشف إلا عن الحاجة "المنسيّة" لروحه، حاجتها الأعمق.
استمدَّ من الصورة قوة لم يعرف مثيلاً لها قبل ذلك، طائعاً أوامرها بيقين ممتع وقام بالإنجاز الذي لمح نموذجه داخل الفجوة. فتح عينيه، اللتين كان قد أغمضهما خلال التمرين، ونهضَ عن كرسيه، وخطا خطوة إلى الأمام، ومدّ يديه، وأحاط بهما عنقَ البروفسور، وراح يضغط إلى أنْ شعر بأنه اكتفى. ثم شعر بالرجل المخنوق يقع على الأرض، فأشاح ببصره، وعندئذٍ فقط تذكّر أنه ليس وحده: كان زميله الطالب جالساً معه يكسو وجهه شحوب الموتى، وتندّي جبينه حبات العرق، ويُحدّقُ إليه في رعب.
هتفَ إدموند بحماس "لقد نفّذتُ الأمر بحذافيره! جعلتُ قلبي خالياً، وحبستُ أنفاسي، وفكّرتُ في الفجوة التي في رأسي، وجّهتُ تحديقي نحوها إلى أنْ اخترقها. ومن ثم رأيتُ الصورة؛ رأيتُ البروفسور ورأيتُ نفسي، رأيتُ يديَّ تُطبِقان على نحره. لقد أطعت الصورة آلياً، لم أكن في حاجة إلى القوة، ولا إلى قرار. والآن أشعر بسعادة ضافية كما لم أشعر مرة في حياتي!"
هتف الآخر "تمالك نفـسك وفكِّر! لقد قتلتَ رجـلاً! أنت قاتل! وسوف تُعدَم!"
لم يكن إدموند يُصغي. في تلك اللحظة لم تصله هذه الكلمات. غمغمَ كلمات التميمة السِحرية – مار بيغيل ترافو غنوكي – لم يرَ بروفسورات أحياء ولا موتى، بل الامتداد اللا متناهي للعالم وللحياة، مفتوحاً أمامه.
[1] - المقصود هنا الأستاذ الجامعي الذي لا يأخذ راتباً من الجامعة بل يتلقّى أجراً من الطلاب مباشرة. - المترجم
ترجمة: أسامة منزلجي
المصدر: أوكسجين
إضافة تعليق جديد