غسان الرفاعي: الطغاة المقنعون والأخلاقية المزورة
-1-
ألتقيته في جامعة بوسطن, منذ 8 سنوات, فلم أستمزجه: كانت ثيابه أشبه ما تكون بكرنفال من الألوان الصارخة المتنافرة, ولم يكن حديثه أقل تنافراً واستفزازاً يريد أن يقنعك بأن مكتبة بكاملها قد استرقت بين تلافيف دماغه, ولكنه لا يذكرك إلا براعي أبقار يسعى إلى إرهابك أولاً, والى غسل دماغك ثانياً: فجاجة غير مريحة, تفاصح يضرب على العصب, واستعلاء متبعثر يدعو إلى الضحك, يبدأ حديثه, بهذه اللهجة الوقحة: أريدك أن تفهمني جيداً, وهذا يتطلب منك بعض الجهد, فأنا لا ألقي الألفاظ جزافاً... وحينما تبذل بعض الجهد لاستيعاب حديثه تخرج بهذه النتيجة أنه لا يتقن إلا فناً واحداً هو, فن إلقاء الألفاظ جزافاً! إنه رجل أعمال انقلب إلى كاتب أو لعله كاتب يهدد بأن يعود رجل أعمال في كل لحظة, يقول لك في تفاخر: تركت الأعمال لأنني رجل أخلاق, رجل مبادئ! وقد لا تحتاج إلى أكثر من خمس دقائق لتكتشف أنه انتهازي في خدمة رجال الأعمال, والأعمال غير المشروعة تحديداً...
-2-
قرأت البارحة, مقالاً بتوقيع رجل الأعمال الذي يريد أن ينقلب إلى رجل مبادئ واسمه دافيد بردور قبل أن أنسى- في صحيفة /الهيرالدتريبيون/ الدولية عنوانه: الأخلاق الدولية رد فيه على كتاب وضعه /هانز مدركانتو/ وهو استاذ في جامعة هارفرد حول الدفاع عن المصلحة القومية الأمريكية, فتذكرته فوراً, بثيابه التي تشبه كرنفالا من الألوان الصارخة, وتفاصحه الذي يضرب على العصب.
جملة نابية وردت في كتاب الاستاذ الجامعي أثارت السيد /دافيد بردور/ هي قوله: إن أهم خصلة من خصال العقل الأمريكي هي إيمانه بأن الفعل السياسي ينبغي أن يكون من وحي المبادئ الأخلاقية, وليس استجابة للشعور بالقوة والتفوق.
إن بردور, عوضاً عن أن يستثمر هذا الاستشهاد لدعوة المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة إلى التمسك بالمبادئ الأخلاقية في تعاملها الخارجي, يعلن سخطه وغضبه, ويكتب: مثل هذا التشخيص للعقل الأمريكي سيؤدي إلى انهيار سمعة الولايات المتحدة, ذلك أن العالم بحاجة إلى هراوة غليظة لا إلى إنجيل أخلاقي ويتبرع بردور بكل الشجاعة الأدبية التي يملكها ليقدم لنا فاتورة من الحجج الداحضة:
أولاً: إن ازدياد الحقن الأخلاقية في السياسة الدولية, سيؤدي لا محالة إلى الابتعاد عن الواقعية, وتالياً إلى الخرف السياسي أن الدول الكبرى بحاجة إلى مكيافيللي, لا إلى نبي, والولايات المتحدة- وهي الدولة الأقوى- لن يسعدها أن ترى نبياً مصلوباً, بل قد تفضله في خندق يضغط على زر لإطلاق الصورايخ.
ثانياً: قد تكون واجهة تختفي وراءها السياسية الحقيقية, ولكن لا يجوز أن ينشأ تطابق عقلي بينهما, وآية ذلك أن الأخلاقية تتصدر منابر الإعلام للاستهلاك الشعبي, ولكن السياسة الحقيقية تطبخ في الغرف المغلقة, لتحقيق الأهداف المرسومة بكل دقة وعناية.
ثالثاً: الأخلاقية موقف دفاعي متخاذل, وليس موقفاً هجومياً شجاعاً, المهزومون هم الذين يتشبثون بالمبادئ, ولكن المتضررين يحملون سياستهم ويزرعونها حيث يوجدون, إن الرجوع إلى الأخلاقية الاستراتيجية الأمريكية دليل على عجز وإفلاس, لا دليل صحة وعافية...
حينما التقيت بردور في بوسطن, في حفل ضم نخبة من المثقفين العرب والأمريكيين, لم أستمزجه, وحينما قرأت مقالته السوداء في الهيرالدتريبيون, بعد عشر سنوات تقريباً لم أغبطه, زعم انئذ أنه ترك الأعمال لأنه شغوف بالمبادئ والقيم, فلماذا لا يعود إلى الأعمال, لا الأعمال التجارية الشريفة, وإنما الأعمال التي يمارسها المرتزقة الذين يوزعون الموت والدمار إلى كل مكان في العالم؟
-3-
لم يصدق الكثير من المثقفين العرب الحقائق الموجعة التي كشف عنها التقرير حوله الأوضاع في العالم العربي الصادر عن الأمم المتحدة الذي شارك في إعداده عدد من كبار الاختصاصيين العرب والغربيين, وقد أصيب الكثير منهم بالهلع وخيبة الأمل بعد الاطلاع على حجم التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العربي الذي تعاني منه المجتمعات العربية المعاصرة وما زال هذا التقرير- بعد أن صدرت نسخة أكثر معاصرة له, في الشهر الماضي- يثير المناقشات الحادة في الصحف ومراكز الأبحاث والجامعات والأندية الثقافية, على أن الاستطلاع «الشرير» الذي نشر حديثاً حول أوضاع المهاجرين العرب في فرنسا قد فجر الكثير من الهموم والأوجاع وقد نجد لزاماً علينا أن نتحدث باقتضاب شديد, بعد أن كشف الاستطلاع عن ست عورات فاضحة, أضحت متجذرة في المجتمعات العربية المهاجرة, قد لا يمكن التستر عليها, ولو من باب التمسك بالكبرياء الوطنية.
العورة الأولى: هي ثنائية الاستقطاب بين الأصولية, على اعتبار أنها المخرج الوحيد من الضياع وفقدان الهوية 15% وبين الاندغام الكامل بأسلوب الحياة الغربية, على أنها الخيار الوحيد للنجاح والارتقاء 85%.
وفي حين يفاخر الأصوليون بأن خيارهم هو خيار الشرف والكرامة, يعترف المدافعون عن الاندغام بأن خيارهم هو خيار العقلانية والحداثة.
العورة الثانية: هي تفتت روح التضامن الاجتماعي عند جماهير المهاجرين العرب, بعد الهزائم والنكسات المتكررة, لتحل مكانها نزعة تنافسية انتهازية, وبعد أن كان المهاجر يفكر بالخلاص الجماعي, وتكوين قوة سياسية واجتماعية ضاغطة, تشرذم وأخذ يفتش عن الخلاص الفردي داخل دهاليز المجتمع الفرنسي, بالالتجاء إلى الاحتيال والمراوغة للحصول على العمل أو الربح, أو النفوذ أو الوجاهة.
العورة الثالثة: العزوف عن التعليم العالي, وتفشي الانحراف السلوكي والأخلاقي, يقول شاب في الرابعة والعشرين حصلت على عدة شهادات جامعية, وكان علي أن أدفع ثمناً باهظاً للحصول عليها, ولكني ما زلت بلا عمل, ولعل حصولي على هذه الشهادات هو السبب في بطالتي المزمنة يضيف وهو لا يخفي غضبه أن الفرنسيين على استعداد لاستخدامنا في الأعمال الهامشية التافهة التي يتأففون منها, لا في الوظائف المحترمة الرفيعة, فهذه حكر لهم, لا يقبلون فيها منافستنا, وهكذا يفضل المهاجر الاتجار بالمخدرات والعمل في السوق السوداء على المعاهد والجامعات, ويقول شاب ظهرت عليه آثار النعمة: هذه التجارة القذرة كما يحلو لكم أن تسموها- تدر علي من 5 إلى 10 آلاف يورو أسبوعياً, هل أتركها لأتفاخر بالشهادات الجامعية, الفائضة الحاجة...؟
العورة الرابعة: هي العزوف عن تعلم اللغة العربية, لأنها- فيما يزعم الجيل الجديد من المهاجرين لا تفيد في الحياة المهنية والاجتماعية, ولأنها ليست أكثر من وسيلة لتكريس الأصولية والتخلف, وتفضيل اللغة الفرنسية أو الانكليزية لأنهما لغتا المعاصرة والنجاح الاجتماعي.
والفضيحة أن رجلاً مثل الدكتور عادل الجازوري مدير معهد دبليو سكوبي- يطالب, بكل وقاحة, بأن يمتنع الطلاب المهاجرون عن حضور دروس اللغة العربية حرصاً على عدم تورطهم بالأصولية البدائية.
العورة الخامسة: هي رفض العودة إلى الوطن الأم, مهما كانت الإغراءات المادية والمعنوية, يقول شاب في العشرين من عمره: إنني مهمش, عاطل عن العمل وأشعر بأنني كائن غير مرغوب به في المجتمع الفرنسي وأن الجميع يمانع في اندماجي أو الاعتراف بي ولكنني حر, وعندي طموح في أن أزدهر وأنجح وأستقر, أما هناك فأنا أشعر بالغربة والخوف والقهر نعم سأبقى هنا وأنا مرتاح الضمير, لأن إنسانيتي محترمة على الرغم من قوانين الجنسية الجديدة, وكوابح وزارة الداخلية.
العورة السادسة: هي الانتصار والتحيز للإباحة الجنسية ضد التزمت الأخلاقي الشرقي, والقبول بالعلاقات الجنسية قبل الزواج, ومع غير العرب تحديداً, وقد أظهر استطلاع أن 70% من الفتيات الشابات يتناولون حبوب منع الحمل بانتظام, وأنهن يفضلن صداقة الفرنسيين ويتجنبن الشباب الشرقي بسبب تفاخرهم بفحولتهم وذكورتهم وعقدهم النفسية.
-4-
مقارنة غير محتشمة بين أخلاقية الغطرسة وأخلاقية الاستكانة تتعمق باستمرار, ويبدو أن كل محاولات تجاوز الخلاف بين الأخلاقيتين فاشلة حتى قبل أن تطرح وتختبر, ولكن لا بد من التجاوز, والتوصل إلى تسوية مرضية, وإن كان هذا التجاوز سيعبر الكثير من المخاضات, وينجو من الكثير من الأفخاخ والمطبات!
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد