بعثة المراقبين بين زوبعة التفاصيل وتعلُّم السباحة

25-12-2011

بعثة المراقبين بين زوبعة التفاصيل وتعلُّم السباحة

الجمل ـ عبد الله علي: لا نعلم إذا كان الوزير وليد المعلم يمزح عندما قال: إذا كنا سنغرقهم بالتفاصيل فعليهم أن يتعلموا السباحة.. ولكن من الواضح أن زوبعة التفاصيل سوف تثير الكثير من الأمواج التي قد يكون بعضها من العلو بحيث يكون عصياً على الركوب.
ورغم الاتفاق المفترض الذي يدل عليه توقيع بروتوكول بعثة المراقبين بين سوريا والجامعة العربية، إلا أن تصريحات الجانبين للإعلام بعد مراسم التوقيع تدل على أن الاتفاق بينهما غير قائم على أسس قوية، وتشوبه الكثير من الشكوك المتبادلة حول النوايا الحقيقية لكل جانب ومدى التزامه الفعلي بما تمَّ التوقيع عليه. بل يمكن القول أن رواسب الخلاف العميق بينهما ما زالت تتحرك بوضوح تحت الطبقة الرقيقة التي افتعلها الاتفاق الأخير.
في البداية، من الواضح أن ثمة خلافاً جوهرياً بين الجانبين حول " المبادرة العربية" ومدى مرجعيتها. وقد كان الوزير وليد المعلم واضحاً في مؤتمره الصحفي الأخير في تعبيره عن رفض سوريا لهذه المبادرة واعتبارها كأن لم تكن، وأن سوريا تلتزم فقط بخطة العمل العربي دون المبادرة. إلا أن الجامعة العربية قد تتمسك بالمبادرة بحجة أن خطة العمل التي وقعتها سوريا إنما وضعت على أساس المبادرة وأن القرار الصادر بإقرار الخطة أشار صراحة إلى مرجعية المبادرة عندما ذكر أنه يصدر " تأسيسا على المبادرة العربية لحل الأزمة السورية واستناداً إلى قرار مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري بتاريخ 16 تشرين الأول الماضي". ويعزز هذا التصريح الذي صدر عن وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل عقب اجتماع مجلس التعاون الخليجي والذي انتقد فيه تمييز الوزير المعلم بين المبادرة وبين الخطة.
من حيث المبدأ، فإن سوريا لم توافق على المبادرة العربية ورفضت التوقيع عليها، لذلك فهي غير ملزمة بها، لأن المبادرة لا تعدو كونها طرحاً أولياً موجهاً من طرف إلى آخر بغية التفاوض عليه والاتفاق حوله، فإذا لم يحصل الاتفاق تعتبر المبادرة كأن لم تكن ولا يكون لها أي أثر قانوني.
لكن بعد ذلك وافقت سوريا على خطة العمل العربي التي صدرت بقرار عن مجلس وزراء خارجية العرب، وكان مقتضى ذلك أن تعتبر الخطة هي الناظم القانوني الوحيد للعلاقة بين الطرفين، إلا أن ما حدث هو أن قرار مجلس وزراء الخارجية أقرَّ الخطة بعد أن ذكر في حيثياته أنه يصدر "تأسيساً على المبادرة العربية". وقد يقول قائل أن هذا يعتبر قبولاً سورياً بالمبادرة العربية لأن سوريا لو لم تكن موافقة على المبادرة كمرجعية كان عليها أن ترفض صدور القرار بناءً عليها. وبما أنها لم تفعل فإنها تكون ملزمة بالمبادرة وبالتالي فإن كلام الوزير المعلم في غير محله. والواقع أن هذا التفصيل من شأنه أن يثير الكثير من الإشكاليات أثناء تنفيذ الخطة المتفق عليها، لأن هناك من يعتقد أن الخطة هي الأساس الوحيد، بينما يرى آخرون أن المبادرة هي الأساس الذي سوف تنفذ الخطة بناء عليه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار التناقض الكبير بين المبادرة وبين الخطة، أمكننا أن نتصور حجم الإشكاليات التي ستبرز أثناء التطبيق، وهذه الإشكاليات بدورها سوف تتولد عنها العديد من التفاصيل والعديد من الأمواج العصية على الركوب.
ويمكننا تلخيص الوضع الحالي بالعناصر التالية: لدينا مبادرة لم يتم الاتفاق عليها ولكنها بنفس الوقت ما زالت موجودة، ولدينا خطة تتناقض مع المبادرة لكنها صدرت بناءً عليها، ولدينا بروتوكول متفق عليه الغاية منه تنفيذ البند "أولاً" من الخطة الذي يتناقض مع البند "أولاً" من المبادرة، ولدينا تصريح من الوزير المعلم يعتبر فيه المبادرة غير ملزمة لسوريا، وتصريح آخر لسعود الفيصل يعتبر فيه البروتوكول جزءاً لا يتجزأ من المبادرة.
ومن الصعب الاعتقاد بسذاجة أن الأطراف لم تكن منتبهة إلى عمق الاختلاف الجوهري بين إدراك كل منها للعناصر السابقة، أو أنها قامت بالتوقيع على الخطة والبروتوكول دون أن تكون واعية لحقيقة نظرة الطرف الآخر حول المبادرة ومرجعيتها وإلزاميتها. بل على العكس نحن نعتقد أن هذا التشابك المعقد بين العناصر السابقة هو مقصود بذاته، كونه الطريقة الوحيدة لحفظ ماء وجوه جميع الأطراف، بحيث يكون لدى كل طرف ما يكفي من الذرائع للتنصل من إحدى الأوراق الثلاث (المبادرة، الخطة، البروتوكول) بالاعتماد على ورقة أخرى.
هذا يقودنا إلى توصيف العلاقة الحالية بين الجامعة العربية وبين سوريا على أنها أشبه بـ"الاتفاق على ضبط الخلاف بينهما" أكثر منه اتفاقاً حقيقياً قابلاً للتنفيذ. وهذه العلاقة الشائكة بين سوريا والعرب ما هي في الحقيقة إلا انعكاس لتوازن القوى الدولي الذي يشكل المظلة التي تحيط بتداعيات الأزمة السورية وتجاذباتها الكثيرة، من دون أن تتوافر لأحد أقطاب هذا التوازن "القشة" التي يستطيع بها أن يقصم ظهر خصمه. لذلك فإن بعثة المراقبين سوف لن يكون نشاطها إلا مجرد ترجمة لهذا التوازن الدولي، والتقرير المرتقب صدوره عنها بعد إنتهاء مدة عملها في سورية، سوف يكون خاضعاً لمقتضيات هذا التوازن ومتطلباته. بمعنى آخر ليس علينا أن نتساءل عن نشاط بعثة المراقبين وحدود صلاحياتها ولا عن مرجعيتها هل هي المبادرة أم الخطة، لأن كل هذا ليس له تأثير حقيقي بالأحداث، إنما هو مجرد مؤشر قد يدلنا على استقرار التوازن الدولي أو اختلاله الذي يتوقف عليه مصير الأزمة السورية. ربما لذلك يمكننا القول أن الوزير وليد المعلم لم يكن يمزح عندما تحدث عن السباحة لأنه يدرك جيداً أن ما تم الاتفاق عليه مع الجامعة العربية ما هو إلا بحر متلاطم الأمواج ومن يقرر إلقاء نفسه فيه عليه أن يكون واثقاً من قدرته على عبوره سباحةً.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...