محاولة لقول ما لم يقل عن السيد فرانز كافكا
تعرضت أعمال فرانز كافكا إلى ثورة فكرية ونقدية وأيديولوجية في تأويلها وشرحها, ولم تكن تلك الكتابة كما أرى سوى فتح أبوب جديدة لا أقول لنلج من خلالها- بل لنهبط إلى أقبية كافكا المهيبة بظلامها الدامس.
لقد قرأت فرانز كافكا منذ بداية عهدي بالأدب, وعندما أقرأ شيئاً جديداً له- أو عنه- أشعر بأنني وقعت على كنز ثمين, إنه كاتب سحري, ترفض أعماله الذهبية أن تتحول إلى التراث الكلاسيكي, إنها تستمد تجددها من هالة التأويل التي تحيط بها.
كافكا بذاته يشكل مدرسة روائية وقصصية فريدة في التاريخ الأدبي المعاصر وقد ترك أثره على معظم عمالقة الرواية والقصة سواء الذين فازوا بجائزة نوبل, أو الذين تجاوزتهم الجائزة وكانوا من المستحقين بها.
فقد استطاع أن يبني عالمه الروائي لبنة لبنة بخصوصية رسخته كأهم روائيي العالم الذين تركوا أثراً على مختلف الأجيال الروائية من بعده.
ويعد كافكا من أبرز الأدباء الذين شيدوا إمارة الغموض في الأدب, وعندما نتحدث عنه ظاهرة الغموض, أو عن الأدب السوداوي, فلا يكون لنا ذلك إن تجاهلنا إبداعات هذا الروائي الذي استطاع أن ينفذ بقوة إلى حلكة الظلام, ويوظف أفكاره من خلال تلك العتمة الحالكة, في مذكراته البائسة إلى صديقه ماكس برود المؤرخة في 13 ديسمبر عام 1914 يضيف كافكا الملاحظة الآتية إلى جملة مذكراته:
لقد نسيت أن أضيف, وتقصدت هذا النسيان فيما بعد, أن خير ما كتبته له دوافعه في قابليتي لأن استطيع الموت مسروراً وفي جميع هذه المقاطع الجيدة المتسمة بالإقناع القوي, كان المقصود على الدوام شخصاً يموت ويجد أن الموت صعب, وأنه ظلم, أو على الأقل نوع من القسوة يقع عليه, مما يجعل ذلك في رأيي على الأقل يؤثر في القارئ.
التحول في رواية المسخ
أحدثت رواية المسخ ما يشبه الثورة في عالم الرواية, وزلزت الأرض تحت أقدام الروائيين بعد أن سحبت منهم بساط الاسترخاء على عرش الرواية في العالم, لقد جاء هذا الشاب الخجول ليفجر ما يشبه الديناميت الأدبي في بحيرة الرواية الراكدة.
إن غريغوار سمسا بطل روايته الشهيرة /المسخ/ وهو المعني بحديث كافكا يموت بصمت وبالطريقة التي يختارها لنفسه في مشهد يتمكن كافكا من تصويره بدقة وبلاعة أدبية.
بين كافكا وبطل الرواية
لقد مات غريغوار سمسا وهذا الموت يعني الشيء الكثير لكافكا إنه يعني له الحياة لقد انتحر فرانز كافكا حينما قتل غريغوار ولو لم يمت غريغوار لأقدم فرانز كافكا نفسه على الانتحار بطريقة انتحار بطله نفسها في هذا العمل الذي يعد من أهم الأعمال التي أبدعها.. فقد أنقذه غريغوار من الانتحار, قال كافكا ذات يوم: لقد عانيت طوال حياتي وأنا أتهرب من الانتحار نلاحظ بأن جميع أبطاله يموتون.. أجل يموتون حتى يبقى كافكا حياً.. لا أحد لديه لا يموت.. كلهم يموتون.. إنه يقتلهم جميعاً.. في مستوطنة العقاب وتحريات كلب- والقصر- والقضية- والمحاكمة.. والمسخ ولكن لماذا هذا الموت.. هل ليعيش فرانز.. بالطبع لا.. لأن فرانز يمقت الحياة وبالوقت نفسه يبحث عن العدل الاجتماعي في الحياة ذاتها.. وأستطيع أن أرى بأن جميع هؤلاء كانوا يمهدون لموته في الوقت الذي يؤجلون فيه هذا الموت لذلك يدخل فرانز كافكا إلى أعماق شخوصه قبل الموت بلحظات أنه يصور أدق وأخفى المشاعر التي تسيطر على الشخص الذي سيموت أو سيقتل أو سينتحر بعد لحظات قليلة فقط.. وما يجعلني مقتنعاً بنظرتي هو التصاق كافكا بهؤلاء حتى أنه يوهم أحياناً بأن البطل هو الكاتب نفسه عندما يعطيه حرف (ك) الحرف الأول من (كافكا) وغريغوار نفسه لا يختلف عن فرانز كافكا فكلاهما يعملان في التوظيف في إحدى الدوائر وكلاهما يفكران بطريقة واحدة وينظران إلى المجتمع نظرة متقاربة.
في المسخ يعاني غريغوار من تسلط والده.. هذا الوالد القاسي الذي يصر على ضربه حتى بعد عملية المسخ ويسعى إلى طريقة التخلص منه ويقول فرانز كافكا ذاته في إحدى رسائله الموجهة إلى أبيه.
أنت المقصود بكل كتاباتي أن أشكو مما لم أستطع أشكوه لك وأنا على صدرك إنه انتقام بطريقة غير مباشرة ولسوء حظ السيد هرمان أنه أنجب ولداً مثل فرانز.. هذا الولد الذي سيجعل لعنة العالم بأسره تحل عليه كل يوم وعلى الرغم من كل هذا الحقد يأتي التصريح التاريخي على لسان الضحية ومع ذلك, فقد أحببتكم على الدوام يا أبوي العزيزين.
المرأة في حياة كافكا
يتحول فرانز كافكا إلى شخص ناقم على الجميع وحتى على المنجزات العلمية مثل الآلة التي تتسبب في انتشار البطالة بين العمال ويفضل العزلة الأبدية في كهف لكن هذه الرغبة تصطدم بتدخل أبيه في حياته الخاصة هذه الحياة التي يفضل أن يمضيها في الكتابة فحسب ولا شيء غير الكتابة.. الكتابة عن الموت, حتى الموت.. إنه يتجرد من الحياة تماماً وحتى المرأة الوحيدة التي يحقق له الحب في الأيام العصيبة يطلب إليها الخروج من حياته يكتب إليها في رسالة خاصة كثيراً ما فكرت في حياتنا المستقبلية فأشعر برغبة داخلية في أن خير نمط للحياة بالنسبة لي هو أن أعيش في كهف طويل منعزل عن العالم مضاء بمصباح أكتب وأكتب, ولا شيء غير الكتابة وأن يحمل إليّ طعامي ويوضع في مدخل ممر الكهف بعيداً عن مجلسي الذي أكتب, فأذهب لأكل الطعام على قدر ما تسمح معدتي وحاجتي للطعام وسيكون سيري من مجلسي حتى المائدة هو نزهتي الوحيدة وعندما التهم ما يقدم لي, سأعود مسرعاً إلى الكتابة هوايتي الوحيدة. إذ لا هوى لي في اللعب, فممارسة ما يهوى الإنسان يا حبيبتي لا تتعبه, وسيكون إنتاجي الأدبي رائعاً, لأن الروعة هي نتيجة الإرهاق المحبب ولا إرهاق مع من نحب قد تعدّين ذلك جنوناً فهل ترضين أن تعيشي في كهف مع هذا المجنون؟!
البحث عن الحقيقة
واضح أن فرانز كافكا كان حقاً يعيش الموت منذ اليوم الأول من ولادته.. لقد تخلى عن الحياة كلها.. وكان بمقدوره أن يستمتع بملذات الحياة لوشاء ذلك ولو لم يعتبر نفسه ميتاً ومن هذه النقطة تبدأ عظمة كافكا وتبدأ عبقريته أيضاً وقد تكون هذه النقطة مصدر سعادته أيضاً فهو كما سبق يعيش دون أي أمل وذلك خير نمط للحياة.. وهو سعيد ليست تلك السعادة بالمفهوم المتعارف عليه ولكنها سعادة لا يتذوقها إلا كافكا وحده.. إنها النكهة التي لا يتذوقها إلا من بلغ به الحزن ذروته ومن توصل إلى قمة الضياع واللاجدوى هذه هي أرضية كافكا التي ينطلق منها، هذه هي ثقافته، وهو كما يتضح قارئ سيئ، وكسول وعلى الأغلب يكتب أكثر ما يقرأ.. وليست ثمة مقولات أو شواهد تستحق أن تشير إلى أنه كان نهم القراءة.. كما هو لم يتأثر بكاتب من قبله, وما نستنتجه من إبداعات هذا الروائي الكبير جداً هو أنه على إطلاع جيد للعهدين القديم والجديد وهذا ما وفّره له جو البيت بسبب تدين والده وعليه فإن معظم أعمال كافكا تطرح موضوع الموت من منطلق ديني.. إنه على الأغلب يبحث عن الإله الذي لا يشك بوجوده ولكنه لا يراه.. يبدو ذلك في قصة «المحاكمة»، وليس هدفنا أن نقدم شرحاً موسعاً للقصة لكنها باختصار تدل على قلقه على مصيره، لذلك يبحث عن الحقيقة بالكتابة.. بالكتابة فحسب وليس بالقراءة.. «الكتابة» التي تريه مشهد الموت وتكشف أمامه بعض الألغاز.. إنه يتعامل مع الموت بدقة مذهلة إن الإشارة الاولى لبداية المعرفة هي الرغبة في الموت.. فهذه الحياة لا تحتمل والحياة الأخرى ليست في متناول يدنا ولذا فإننا لا نخجل من رغبتنا في الموت.
إنه نص صريح ومباشر أكثر من أي نص آخر ورد على لسانه.. الموت كموضوع أول وأخير للكتابة إنه هاجس أبدي.. ولم يسبق لكافكا أن كتب عن غير الموت.. ولا نلمس بريقاً للأمل في معظم كتاباته ورسائله ومذكراته على العكس تماماً من البير كامو الذي يرى في الموت نهاية كل شيء ولا يعقد أي أمل خارج إطار الحياة.. إن السر كله يكمن في عملية الموت بالنسبة لكافكا هل الإنسان ميت في الحياة وإنه يعيش في الموت إنساناً فهم كلمة «الموت» وهنا نستطيع أن نحكم بأن مفهوم كافكا للموت أوعى بكثير من مفهوم البير كامو إليه وأوسع من مفهومه وأشمل وربما أدق.. والكتابة وحدها تعينه لمواصلة هذا البحث عن شرح أوضح لمفهوم الموت ولمعنى الموت.. فلولا الكتابة لما استطاع كافكا أن يعيش أربعين سنة متواصلة.. والكتابة تضمن له البقاء والبقاء ليس بمفهوم خلود الأثر الأدبي كما هو شائع.
وإنما بقاء كافكا ذاته في أثناء وجوده في المجتمع وهو لا يؤمن بخلود الأثر الأدبي.. ولا يهمه ذلك وقد أوصى صديقه ماكس برود أن يحرق جميع كتاباته، لكن الصديق لم يعمل بالوصية، ونشر كل هذه المؤلفات المودعة لديه بعد وفاة فرانز كافكا، وذلك حتى يقدم خدمة لصديقه وينشر آثاره التي سوف تخلده.
مفهوم الكتابة عند كافكا
حقيقة الأمر أن كافكا كان يكتب ليخفف عن نفسه، ويجد متنفساً في أجواء الكتابة، ثمة عبارة نعثر عليها في هذه الكتابات، وهي عبارة اعترافية يقول فيها: /أود اليوم أن انزع عن نفسي بالكتابة كل حالة القلق فأنقلها من أعماقي إلى أعماق الورق/. ولنتأمل أي شيء كان بوسع كافكا أن يصنعه لو لم يكتب؟ وأمام جواب واحد يرد على لسانه نثق بأنه كان سينتحر قبل بلوغه سن العشرين وهو يحمل كل هذه الحساسية تجاه مجريات ووقائع الحياة التي يعيشها.
لذلك يحلو له أن يدوّن الجملة التالية بخط واضح: /أنا أكتب بالرغم من كل شيء وبأي ثمن، فالكتابة كفاحي من أجل البقاء/.
في مستعمرة العقوبات
في هذه الرواية مستعمرة العقوبات يصور كافكا القسوة التي تبلغ بالإنسان وهو يعذب إنساناً من خلال ضابط وحارسه، يصور كافكا بدقة شديدة تفاصيل الوحشية التي يمارسها الضابط بحق حارسه، فالحارس في هذه الرواية ليس له عمل سوى أن يقف كلما تدق الساعة، ويؤدي التحية لباب الضابط طوال الليل. يدخل كافكا قارئه إلى أجواء روايته سارداً له: /في الليلة الماضية أراد النقيب أن يرى فيما إذا كان الرجل يقوم بواجبه, ففتح الباب عندما دقت الساعة الثانية, وهناك كان هذا الرجل يتكوم نائماً، فتناول سوط الفروسية وجلده على وجهه، وبدلاً من النهوض والتماس الصفح، أمسك الرجل بساقي سيده وهزه صائحاً: /الق ذاك السوط بعيداً، وإلا سآكلك حياً/.
وهنا يستاء الضابط ويوجه إليه أقسى ألوان العقاب. يصف المستكشف طريقة العقاب بقوله: /إن شكل المسحاة كما ترى يماثل الشكل البشري، هنا المسحاة المخصصة لجذع الإنسان، وهنا المسحاتان المخصصتان للساقين، أما فيما يخص الرأس فثمة هذه /الرزة/ الصغيرة الوحيدة فحسب، عندما يتمدد الرجل على السرير ويبدأ في الاهتزاز تخفض المسحاة إلى ان تبلغ جسده، إنها تنظم نفسها تلقائياً إلى حد أن الإبر تلمس جسمه، أو تكاد، وحالما يتم التماس يتصلب الشريط الفولاذي متحولاً إلى رباط قاس في الحال، وعندئذ يبدأ الأداء، إن الشاهد الجاهل لا يرى فارقاً بين عقوبة وأخرى، وتبدو المسحاة وهي تؤدي وظيفتها بانتظام متماثل عندما ترتج تثقب رؤوسها الحادة جلد الجسم الذي يرتج هو نفسه بفعل اهتزاز السرير.
عبد الباقي يوسف
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد