«ورثة المستقبل» لهنري ترويّا: التاريخ الروسي من وجهة نظر خاصة
لم يكن كارل ماركس مخطئاً حين كان يقول إنه أبداً لا يتوقع لروسيا أن تصبح الدولة الاشتراكية الأولى في العالم... ذلك أن للشعب الروسي خصوصية تجعل أيّ تنظير، من الصعب أن ينطبق عليه. ومن هنا، حين أراد لينين لاحقاً أن يفهم هذا الشعب حقاً، وجد لزاماً عليه أن يراجع مئات المؤلفات ويستغرق ألوف الأحداث... وأن يقرأ الأدب الروسي خصوصاً على اعتباره المكان الذي يمكّن أكثر من أي مكان آخر من فهم روسيا وشعبها. طبعاً، «خاب» توقّع كارل ماركس وتحققت «الاشتراكية» في روسيا أوّلاً قبل أن تنهار بعد ثلاثة أرباع القرن... لكن الثمن كان باهظاً... الثمن الذي دفعه الشعب الروسي تحديداً. وإذ نعود إلى الأدب هنا، يمكننا أن نقول إن هذا الأدب هو القادر، أيضاً، على إطلاعنا، ليس فقط على سبب تحقّق الاشتراكية في روسيا، بل كذلك على أسباب انهيارها... والتوضيح بأن الاشتراكية أبداً لم تكن طوال عقود حياتها، سمة أساسية دخلت شرايين الشعب الروسي. وإلى هذا الأدب تنتسب بالطبع أعمال الكاتب هنري ترويّا. طبعاً، وهذا معروف، هنري ترويّا، فرنسي ويكتب بالفرنسية. لكنه روسي الأصل وروسي الهوى... ومن هنا، فإن كتاباته تضم بعض أفضل كتب السيرة التي تناولت حياة كبار الكتاب الروس وأعمالهم، من دوستويفسكي إلى تولستوي ومن بوشكين إلى تورغنيف. غير أن ترويّا لم يكتفِ بمثل هذا النوع من الكتب، بل خاض أيضاً في مجال الرواية، وغالبا بنفس لا يقل ملحمية وإسهاباً عن نفس جدوده من كبار الكتاب الروس. أما العمل الأبرز بين روايات ترويّا، فهو بالتأكيد ثلاثيّته «ورثة المستقبل» التي أنجز كتابتها أواخر ستينات القرن العشرين وصدرت في ما مجموعه ألف صفحة.
> تتألف هذه الرواية من أجزاء تحمل العناوين الآتية: «الكراس» و «مئة ضربة مدفع وضربة» و «الفيل الأبيض». وإذا كان ترويّا يهتم في هذه الرواية بما لا يقل عن ستين عاماً من التاريخ الروسي، فإنه حرص على أن تبدأ هذه السنوات مع حكم ألكسندر الثاني لتنتهي عشية الحرب العالمية الأولى. ومن هنا إذا كان للثوريين دور كبير في أجزاء الرواية الثلاثة، فإنهم سيظلون ثوريين «أنقياء»، في معنى أن شهوة السلطة وبناء الدولة لن تكونا، بعد، قد قضتا على أحاسيسهم الثورية.
> ويروي لنا هنري توريّا، معظم هذه الأحداث، من وجهة نظر النبيل الروسي الشاب فيساريون وخادمه، العبد السابق، كليم... مع العلم أن كليم هذا هو الذي يروي الأحداث ويسجلها وينقلها إلينا، منتقلاً من الحقبة التي شهدت الصعود البطيء للحركة الثورية الروسية، إلى فترة الاعتقالات الجماعية للثوريين أيام اشتد القمع القيصري، وصولاً إلى المنفى في فرنسا. وإذا كان كليم يهتم بأن يروي لنا هذا كله، فما هذا إلا لأن سيّده فيساريون يعيش كل تلك الأحداث، متدخّلاً فيها بأفكاره الثورية وأحلامه، بخيباته وهزائمه. واللافت هنا هو أنه إذا كان كليم يشارك بدوره في الأحداث الثورية، فإنه لا يفعل هذا عن أي قناعة، بل لولائه لسيده وإيمانه به. وتلك واحدة من المفارقات الأساسية في هذا الكتاب، وخصوصاً في دينامية الحركة الثورية الروسية... اذ في الوقت الذي تقوم الحركات الثورية كلها باسم الضعفاء والفقراء والمتروكين لمصيرهم، من أمثال كليم، فإن كليم لا يبدو مبالياً بذلك كله. همّ كليم منصبّ فقط على سيده. هو «ثوري» لأن سيده «ثوري»... لا أكثر ولا أقل!
> كليم، هو، كما تقدمه لنا الرواية، دليلنا في تلك الرحلة الشيقة وسط تلك المراحل من الحياة الروسية. فهو، على رغم كونه عبداً سابقاً، يعرف القراءة والكتابة، ومن هنا نجده يدوّن ملاحظاته على ما يمر به، أو بالأحرى ما يمر بسيده ومن ثم به هو، من أحداث. ذلك أن ليس ثمة أحداث في حياة كليم غير أحداث سيده. وهنا أيضاً ليست المسألة مسألة عبد وسيد. فكليم يحب سيده ويؤمن به. لذا، يعيش حياته. ترى أفلا يمكننا أن نرى في هذه العلاقة كناية عن علاقة فئات عريضة من الشعب الروسي في ذلك الحين بالمتميّزين والثوريين من أسيادهم؟
> المهم أن المؤلف يسير بنا، عبر رؤية كليم هذه، عبر تلك المراحل من التاريخ الروسي، متوقفاً عند بعض المفاصل المحورية من ذلك التاريخ... محوّلاً كل مفصل من هذه المفاصل إلى لحظة درامية روائية كبرى، وجد بعض النقاد أنها تحاكي بعض أجمل لحظات «الحرب والسلام» لتولستوي. وعبر مثل هذه المفاصل يسعى الكاتب إلى التوقف، خصوصاً، عند تتابع نضالات الحركات الثورية المختلفة، التي كانت لها اليد الطولى في تحركات الشارع وفي الثورات وحتى في الاغتيالات قبل أن تستتبّ الأمور في نهاية الأمر إلى الشيوعيين. وهكذا، على مدى صفحات الرواية، في أجزائها الثلاثة، نكون أول الأمر إزاء العدميّين ليذكّرنا ترويّا بأن اسمهم الأصلي «نيهيليست» إنما كان من ابتكار إيفان تورغيف في روايته «آباء وأبناء»، ومنهم ننتقل إلى الشعبويين (النارودنيين) الذين كان أول ما فعلوه حين ظهورهم وظهور رغباتهم الثورية، أن توجهوا إلى أوساط الريف بغية تنظيم الفلاحين وتحويلهم إلى وقود للحركات الثورية. ونحن هنا نشهد، من طريق كليم، إخلاص كل هؤلاء لقضيتهم... ولكننا نشهد أيضاً فشلهم الكبير الذي كان في خلفية ولادة الحركات الإرهابية وسلسلة الاغتيالات التي لن تتوقف. والأمير فيساريون، متنقلاً بين المواقف والجماعات، سيكون هنا في عداد حفنة من ثوريين راحوا يعدون القنابل ويفجرونها ساعين من وراء ذلك إلى بث سياسة ذعر تربك المجتمع والسلطات وتمكنهم من تحقيق حلمهم الثوري. ولكن كليم، الذي يراقب هذا كله ويشارك فيه، ينبهنا منذ البداية إلى أن هذا الأسلوب لن يحقق في نهاية الأمر أي نجاح، بل سيكون وبالاً فقط على أولئك الذين يزعم هؤلاء الثوريون أنهم يعملون من أجلهم.
> ومع هذا ستنجح مجموعة تألفت بعد إخفاق المجموعات الإرهابية الكثيرة، وأطلقت على نفسها اسم «إرادة الشعب» في اغتيال القيصر نفسه. وهنا إثر هذه العملية، يتم إلقاء القبض على مجموعة الثوريين ومن بينهم النبيل فيساريون، وبالتالي يكون كليم في عداد المعتقلين. وهم هنا الآن في السجن... أما كليم فإنه الوحيد من بينهم الذي يشعر بالقلق والرعب في انتظار أن يحاكم... بل يحدث له أحياناً أن ينتحب حزناً على القيصر/ الديكتاتور المقتول، مبدياً خشيته من أن رد الفعل على قتله سيكون عنيفاً. وبالفعل تلي ذلك مرحلة قمع وجمود سياسي تتطور خلالها الحركات الثورية لتتجه صوب الماركسية... فيما يُنفى النبيل فيساريون وتابعه كليم إلى فرنسا، ما يشكل أحداث الجزء الأخير.
> لقد عرف هنري ترويّا (مولود في عام 1911) كيف يوازن في هذه الرواية الثلاثية بين الدراما والتاريخ، بين رواية الجموع ورواية الفرد... والحقيقة أنه ما كان في إمكانه فعل هذا لو لم يكن في الأصل وريثاً شرعياً لكبار كتاب روسيا في القرن التاسع عشر... تدل على ذلك، كما أشرنا، السير التي كتبها لهم، وخصوصاً رواياته الكثيرة التي سار فيها دائماً على نهج «ورثة المستقبل» متتبعاً التاريخ الروسي حقبة حقبة، ومنها سلسلة «ضوء العادلين» و «طالما بقيت الأرض» (وهما روايتان عن روسيا الديسمبريين وعن نهاية القيصرية والحرب الأهلية تباعاً). ومن أعماله الشيقة أيضاً رواية «غريمبوسك» عن مهندس فرنسي يعيش في سانت بطرسبرغ أيام بطرس الأكبر...
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد