محجّبات في الصغر سافرات في الكبر

05-04-2012

محجّبات في الصغر سافرات في الكبر

تسع سنوات، هو العمر الذي تبلغ فيه الفتيات «سنّ التكليف» في الدين الإسلامي، وهي السنّ المتعارف عليها لارتداء الفتاة المكلّفة الحجاب. بيد أن بعضهنّ، بعد مرور 9 سنوات أُخَر أو أكثر، يقرّرن التخلص منه

جولةٌ واحدة في الحارات والقرى التي يغلب عليها الطابع الإسلامي هي جلّ ما يحتاج إليه المرء ليلحظ كثرة الفتيات المحجّبات، بمختلف أشكالهنّ. فتاة بحجاب مموّض، وثانية حجابها يطابق الشريعة، وثالثة رداؤها ملاصق للجسد، ورابعة لباسها فضفاض، إلخ. يختلفن، وغطاء الرأس واحد.يرتدينه في التاسعة مسرورات لاعتقادهن بأنهن أصبحن راشدات (أرشيف ــ مروان طحطح)

ربى إ. (30 سنة) لا تتحمّل فكرة الحجاب المموّض، الذي يرافقه الجينز الضيّق أو عدّة المكياج، فهذا بحسب رأيها يقلل من احترام الحجاب الإسلامي. رأي معقول، لكن قد يبدو غريباً للبعض أن يسمعه على لسان فتاة قررت التخلص من الحجاب بعد سنوات من ارتدائه؟ ترفض ربى هذا المنطق، لأنها عندما كانت ترتدي الحجاب «كنت أحترم مستلزماته، رغم عدم اقتناعي به وعدم محبّتي له، لكنّني لم أشوّهه». اضطرت ربى إلى ارتداء حجابها منذ الصغر، لأن الجو الديني الغالب في العائلة والمحيط أوجب عليها ذلك. تلفت إلى أن ذلك لم يحصل رغماً عنها «بالعكس، كنت أرغب في ارتدائه. ففي سن التاسعة، تعتقد الفتاة أن وضع الحجاب يعني أنها نضجت وأصبحت راشدة». مرت 15 سنة، وربى تلبس الحجاب على مضض، فما الذي دفعها بعد كل ذلك الوقت إلى حسم أمرها؟ «توفي والدي»، تجيب ربى. تستدرك سريعاً: «لم أكن أتمنى أن يُتوفّى لا سمح الله، إلّا أنه كان السبب الرئيسي للعدول عن خلع الحجاب طوال هذه السنوات». كان والدها يستشيط غضباً لاعتقاده أن خلعه يعني الارتداد عن الدين، «وهذا غير صحيح، فأنا لا أزال أمارس صلاتي وصومي وغيرهما من الشعائر، لكن حجة أن الفتيات مغريات، لذلك يجب فرض الحجاب عليهنّ لم تقنعني يوماً». بطبيعة الحال، حاولت عائلة ربى إقناعها بالحفاظ على حجابها، بل هم لم يمانعوا في أن «تتموّض»، ووضعوا أمامها مختلف الخيارات «من ثياب وألوان وأكسسوارات، شرط أن لا أظهر شعري، لكنّي اخترت أن أكون سافرة وأكثر تصالحاً مع شكلي الخارجي، ومع مرور الوقت، عادت الأمور الى مجراها بعدما لاحظوا أن شيئاً لم يتغير».
حال السعادة نفسها انتابت جنان سليم (21 سنة) في الفترة الأولى لارتدائها الحجاب. لكن سنوات قليلة مضت، شعرت على أثرها أنها ارتكبت خطأً بحق نفسها. «لا أفهم سبب فرضه على الفتيات في هذه السنّ، فهنّ بالطبع لسن مثيرات في هذا العمر، بل بالكاد يستوعبن سبب ارتدائهنّ له». لا ترى جنان في الحجاب إلا وسيلة لتقويض الفتاة وتقييدها منذ الصغر لتعتاد عليه، لا لتقتنع بوجوبه، وينسحب ذلك على كل القيود «الذكورية» المفروضة على الفتاة حصراً في مجتمعنا. اختارت جنان خلع حجابها في سن العشرين، بعدما كوّنت قناعة مغايرة لتلك الدينية قبل سفورها. «مظهري الخارجي كان في واد، وأفكاري وقناعاتي في واد آخر، عشتُ انفصاماً غذّاه تصرّف الآخرين معي». لم تتحمّل جنان التناقض الذي حملته بين شكلها وقناعاتها، فشكلها الخارجي دفع الناس من حولها إلى تصنيفها في خانة لم تشعر بالانتماء إليها. هي التي سئمت الواقع المزدوج، قررت اتباع تكتيك تدريجي للتخلص من الحجاب. «انتقلتُ من الثياب الفضفاضة إلى الضيقة والقصيرة، وأظهرتُ خصلة من شعري تدلّت على جبيني، في إشارة الى أنه لا مانع لديّ من إظهاره». لكن هذا التكتيك زاد الأمور تعقيداً، فالبعض استمر باعتبارها محجبة، وآخرون رأوها عكس ذلك ... وجنان لم تر في قطعة القماش هذه إلا زيّاً تنكرياً تغطي به رأسها كل يوم. عند حلول ساعة الفصل، تكرّر سيناريو معارضة الأهل لديها أيضاً، «حاول أهلي إقناعي بعدم اتخاذ الخطوة، لا لأجل الدّين، بل لكي يتجنبوا كلام الناس ... ظلوا يرددون على مسمعي أن المجتمع سوف يحاسب الأهل لا الأولاد، وأنهم سيدفعون ثمن خطئي». شعرُ جنان، ذو الخصل الذهبية المتدلّية على كتفيها، دليل قاطع على أنها لم تعمل بنصيحة أهلها الذين تقبّلوا خيارها ... بعدما تأكدوا من أنه ليس بيدهم حيلة.
لا تجرؤ كل فتاة اعتادت ارتداء الحجاب منذ الصغر، أن تخلعه بين ليلة وضحاها كما فعلت كل من ربى وجنان. فبعضهنّ يعمد الى إخفاء الأمر عن العائلة خوفاً من أي ردة فعل سلبية. وجدت فاطمة ح. (28 سنة) في بيروت ملاذاً لتطلق العنان لشعرها. «كنت حبيسة القرية وعاداتها الى حينٍ عثرت فيه على عملٍ اضطرني الى الانتقال الى بيروت خمسة أيام في الأسبوع»، تقول فاطمة. بابتعادها عن أهلها والقرية، انغمست في جوّ جديد تعرفت فيه على أصدقاء جدد، كانوا أوّل من شجعها على خلع الحجاب، وكانت هي مؤهلة لذلك. لا تخفي فاطمة أنها كانت قد تحدثت لأهلها عن رغبتها في التخلص من الحجاب في السابق، إلا أن الجواب كان الرفض القاطع. تقول إنها لم تقتنع يوماً بضرورة الحجاب أو حتى بالهدف الكامن وراءه، «نلبسه منذ كنّا أطفالاً، ويصبح متمّماً للثياب لا أكثر ولا أقل». برأيها «الفتيات اللواتي يرتدين الحجاب في الكبر هن من يستحق تسمية المقتنعات أو الملتزمات، أما محجبات التسع سنوات فهنّ تحت تأثير العرف وتخدير العادة». اللافت في فاطمة أنها تملك هويتيْن؟ «تيما»، ذات الشعر الأسود خلال أيام الأسبوع، وفاطمة ذات المنديل المزركش في نهايته، أي عند زيارتها لأهلها. حتى على «الفايسبوك»، لديها حسابان، الأول يظهرها محجّبة وأصدقاؤها هم العائلة والمدرسة، والآخر يحمل اسم «تيما» تحرص على عدم إظهار وجهها فيه بوضوح، وأصدقاؤها هم زملاء العمل و«معارف بيروت».
يتملّك الخوف فاطمة عند سيرها في شوارع بيروت، فهي لا تزال، بعد ثلاث سنوات من خلعها الحجاب، تتردد في إعلام أهلها. «أصاب بنصف نوبة قلبية عند اشتباهي بوجود أحد ما في المقلب الآخر من الشارع ... الحظ يحالفني الى الآن، فجميع أقربائي هم من سكان الريف»، لكن، ماذا لو ساء حظها يوماً ما؟ تكظم خوفها وتجيب «سيعرفون في نهاية المطاف ... ولوقتها «الله يستر».
ربى وجنان وفاطمة، ثلاثة نماذج قبلن التحدث عن تجربتهنّ من بين عشرات رفضن ذلك. عشرات ينقسمن الى سافرات في العلن، وسافرات في الخفاء، ويجتمعن على تخلّيهن عن الحجاب. رفضٌ لا يعني بالضرورة نبذ الدّين، بل يشبه أكثر حركة احتجاجية على واقع يفرضه الأهل والجو العام، قد يلازم الفتاة طوال العمر، سواء رضيت بذلك أو لم ترضَ.
في هذا الإطار، يلقي الشيخ حسين عبد الله، من المكتب الشرعي للمرجع الراحل العلّامة السيد محمد حسين فضل الله، اللوم على الأهل، ويحمّلهم المسؤولية بالدرجة الأولى. برأيه، يجب على الأهل «ترسيخ معنى الحجاب لدى بناتهن منذ الصغر، لا تصويره على أنه سجن وعزل للفتاة عن المجتمع». يضيف «ينبغي أن يتبع ارتداء الحجاب تربية دينية راسخة تمتد على سنوات عديدة، تقتنع خلالها الفتاة بضرورته وبهدفه الأخلاقي والإنساني، بالإضافة الى كونه متمّماً لممارسات دينية أخرى». ويأسف عبد الله لرواج الحجاب بمفهوم «غطاء الرأس، ومصاحبته لسلوكيات لا تعكس قدسيته، آملاً أن تزداد التوعية حياله بشكل أكثر عمقاً وإيجابية».

تعدّدت الأسباب

يلفت أستاذ علم الاجتماع التربوي وعلم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية د. طلال عتريسي إلى أسباب عدة تدفع الفتاة إلى خلع حجابها بعد سنوات من ارتدائه. السبب الأول يكمن في «التشدّد الزائد في مسألة الممنوعات منذ الصغر، وعدم التساهل بشأن أي سلوك ينافي الحجاب، ما يولّد شعوراً لدى الفتاة بأن الحجاب هو عبارة عن قيد وسجن لا أكثر». السبب الثاني يتعلق «بالبيئة المحيطة بالفتاة التي تساهم كثيراً في تغيّر توجهات الشخص إذا كان مؤهلاً لذلك». والأهم من كل ذلك «دور الإعلام الكبير في التشجيع على التخلص من الحجاب. هناك هجمة إعلامية تصور الحجاب على أنه حجز لحرية المرأة، وأن العالم لا يتقبل إلا تلك السافرة التي تحرّرت بتحرّر الجسد. كما أن انتشار الألبسة المموّضة لا يترك العديد من الخيارات أمام الفتاة، فتلك التي لم تخلع حجابها تتجه الى ارتدائه كغطاء على الرأس لا أكثر، ما ينتج شكلاً كاريكاتورياً، يماشي الموضة فيرضي رغبتها من جهة، ويرضي رغبة الأهل الذين يهمّهم أن تبقى ابنتهم محجّبة من جهة أخرى».

كوثر فحص

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...