الحكائية العربية والرواية الغربية: نحو حداثة جديدة
هل انتهى بالفعل، النقاش بشأن الرواية وانتقالها للادب العربي، أم أن هذه المسألة لا تزال معلقة إلى الآن؟ يبدو على نطاق واسع، أن الأوساط الأدبية والثقافية العربية، غدت مطمئنة إلى أن هذه المسألة قد حسمت وانتهت، وأن قرناً أو أكثر من الزمن، قد مرعلى انتقال الرواية إلى الثقافة العربية، ما يجعل من البديهي القول، أو الإعتقاد، بأن هذا الأمر لم يعد موضوع نقاش، وأن فن الرواية، قد إحتل مكانه الطبيعي، في البنية والمنتج الثقافي الأدبي المكتوب بالعربية. ليس هذا فقط، فالرواية في العقود الأخيرة، غدت متقدمة على غيرها، لا بل وهنالك أيضا من صار يرى، بأن هذا النوع من الإبداع الأدبي، متقدم على الشعر، الذي هو «أيقونة « الأدب العربي، ووجهه الأول على مدى قرون، الأمر الذي يجعل تاريخ اللغة العربية وتطورها، من الناحية الأدبية، مرتبطاً اولاً بالشعر، الذي هو هنا، ميدان شاسع، وغزير، ومتشعب، ومتعدد الحقب والفترات، لدرجة تطابقه مع التاريخ العربي المعروف كله، وحتى فتراته الأبكر، ففي الفترات التي كان التأريخ العربي فيها شفهيا، كان الشعر هو أقوى النصوص الإبداعية الشفاهية ديمومة وحياة، ومن ثم حفظا لشذرات وبقايا من وقائع وأحداث وتواريخ.
والكم الروائي العربي في تزايد وتنوع، والروائيون يتكاثرون، لكن من دون أن يظهر ما يدل على أن الرواية العربية لها «سمات» تميزها، وما نتطرق له، لا ينبع فقد من الإستدلال بالرواية الاميركية اللاتينية، التي إكتسبت مشروعيتها العالمية، بتأكيدها خصوصيات، أصبحت نوعاً من الإضافة لمشهد الرواية العالمية. ولا بد أن نتذكر، أو نذكر جرياً على العادة، وتكراراً «الواقعية السحرية»، على الأقل من قبيل التعيين. فالخصوصيات كانت موجودة وملاحظة في الرواية، قبل الحضور الأميركي اللاتيني، وهنالك فروقات تميز الرواية الروسية عن الفرنسية، والأميركية عن الإنكليزية، بما يعني أن أميركا اللاتينية لم تصنع حالة أو قضية «التميز»، مع أنها بتميزها، دخلت الحلبة العالمية للرواية، فأميركا اللاتينية لم تظهر أو تنتج «خصوصيتها»، كما فعلت روسيا أو فرنسا على سبيل المثال، إنما فعلت ذلك في سياق صناعة ذاتها كـ«الرواية الاميركية اللاتينية»، أي أنها تحولت بذلك إلى «الشيء الآخر»، الذي لا يشترك في تلك الصفة، حتى مع الرواية «اليابانية». إذ يبدو أن هنالك أشياء أخرى تعين الإنتساب لهذا النادي، فتمنعه أو تمنحه، اضافات، لا تتأتى حتماً من داخل الابداع الأدبي بذاته، فعندما تكون الدولة ناهضة، وعضواً في قطار «العالم المتقدم»، فإن أدبها، يحصل على بطاقة الدخول إلى نادي الرواية «العالمية «، بيسر وسهولة أكبر.
هذا لم يكن متوافراً كشرط، أمام الرواية الأميركية اللاتينية وكتابها، وهم إضطروا بلا شك، وبناء عليه لأن يفعلوا ما هو فوق عادي، لكي يصبحوا «عالميين». معنى ذلك أن الرواية الأميركية اللاتينية هي رواية تضطلع بمهمات مزدوجة. فتجازف بأن تصبح حاملة قوتين، قوة الإبداع والتميز الأدبي، وقوة الحصول بذاتها، على حق الدخول للنادي العالمي، ذلك مع الإنتباه إلى أنها عارية حسب المقياس الأساس، وبلدانها ليست «متقدمة» كفاية، بحيت تكون عضواً ضمن نادي الدول المتقدمة، وهي تفتقر والحالة هذه، للمقومات التي تجعل من إنتسابها لهذا العالم شأناً بديهياً، أو مفروغاً منه، أو على الأقل لا يثير التساؤلات الممتعضة.
رواية الآخرين
هذا الإنجاز الياباني، لم يحققه الأدب الهندي، إلا في حالات منفردة ومتفرقة. والشيء نفسه ينطبق على الصين، وعلى أصقاع واسعة من العالم، مع أن الروايات موجودة في كل هذه البلدان، أكثر أو أقل مما هو موجود في العالم العربي، لا فرق. وما ينطبق عليها، ينطبق على عالمنا الروائي. فكتابة رواية الآخرين مفصلة على شخوصنا، وإتقان تقنيات العمل الروائي، لا تصنع رواية مؤهلة للدخول إلى النادي العالمي. فالشر لذلك هو أن تصبح الرواية محلية، ومفجرة وباعثة لعبقرية المكان الذي تتحدث عنه، كما تكون ملبية لشروط وممكنات حضورها الكوني، الأمر الذي لم يدخل حياتنا الإبداعية بعد. ومع أن بعض الروايات العربية تترجم إلى لغات العالم، خاصة منها ذات الطابع المتعلق بالغرابة، أو الإضطهاد المسلط على المرأة، وعدد نادر من الأعمال غير المخطط لها، إلا أن الرواية والأدب العربي الحديث عموماً، لم يتوقف حتى الآن عن إعتماد المخطط، أو السردية الحداثية المعروفة والشائعة، وهذا ينطبق على الرواية والشعر معاً، وعلى غيرهما من أشكال الإبداعية، كالغناء والموسيقى والمسرح، أو الفن التشكيلي.. الخ
والسردية/ المقصود ليس السرد الروائي / المذكورة، تقول بأننا تعرفنا على الغرب، وبدأنا نحاكيه، فظهرت الرواية والشعر الحديث «الحر»، والشعر إنتقل لاحقاً لقصيدة النثر. وهذا المخطط ينطوي على حقيقة غير مشجعة، تقول بأننا لا نفعل غير أن ننقل عن الغرب، وأن «عبقريتنا» تقف عند نقل المنجز الغربي آليا، وفي المجالات التي يسهل فيها النقل، أي الأدب، وليس الصناعة أو وجوه التنظيم الحياتي الأخرى.
أزمة الحداثة
والمثير أن تاريخ الحداثة عندنا، قد ترافق مع نزعة رفض للماضي، من منطلق «الحديث»، المتقدم ضد «المتأخر»، دونما انتباه إلى أن ما يفعله، هو إستعارة لحقيقة، ليس من المؤكد أنها موجودة، أو أن الماضي العربي قد تراجع و«امّحى»، لمصلحة الحداثة بالفعل، وبناء على حيثيات عربية. ولطالما كان هذا الماضي يظل حياً، ويزدهر ويستمر في إنتاج قمم. فالشعر العمودي، قدم في العصر الحديث، منجزات عالية، تضاهي وتتفوق أحياناً، على كل ما أنجز في هذا المجال من قبل شعراء الحداثة. كما أن النغمية والإيقاع، والمنبرية الشعرية العربية، ظلت ولا تزال مؤثرة، في حين أن الرواية، وعموم الفن والأدب الحديث، لم يصل درجة من الإنتشار والفعل، خارج الدوائر الضيقة. وما زالت الكتب والنتاجات التي تنتسب لهذا المجال، لا تبيع من النسخ إلا آلافا قليلة، بينما يصل عدد العرب اليوم، إلى ما يقارب الـ400 مليون نسمة وأكثر، ومع هذا فإن الكتاب العرب يعتقدون، أن تحولهم إلى العالمية، وأحقيتهم بجائزة نوبل للآداب، هي من البداهات. وأن الإشكالية تكمن في إعتبارت غير أدبية، أغلبها سياسي وتاريخي، تكمن في خلفيته، نظرة الغرب للعرب.
هل ثمة من حاجة، إلى شكل آخر من «الحداثة»، أو الى الإنتقال نحو حقبة «حداثية» جديدة، وما هي؟ بعض الكتاب سارعوا منذ زمن، واعتبروا أنه تمشيا مع المتغيرات، لا بد من الإنتقال إلى «ما بعد الحداثة «. وهذا النمط من التصورات، لا يفعل سوى أن يكرر ردة الفعل الحداثية نفسها، التي تبسط العلاقة بالغرب، بأن تعتبر، أو تفترض، أن العالم العربي محكوم بالإيقاع العالمي، وأنه جزء منه إفتراضاً، أي حسب منطق البداهة الظاهرة والسطحية. هذا بينما قد تكون الحداثة العربية، و«أزمتها» كما تتجلى في الشعر اليوم، نابعة من أخطاء رافقت الرؤية الحداثية الأولى، ففي الشعر التقليدي على سبيل المثال، يمكن أن نفترض بأن تمازجاً بين المنجز والإيقاع، والبنية الشعرية العربية الموروثة، مع الرؤية، مع مراعاة البنائية الشعرية الحديثة، يمكن أن تتمخض عن إنجاز إبداعي أرفع وأغنى بكثير من ذلك، الذي إتخذ طريق كسر العروض الفراهيدي، أو ذهب مجربا تغيير زوايا الرؤية والمقاربة، بهدف جعلها من صميم العصر. وهذا ميدان ينتظر حتماً عبقرية شعرية، لم تظهر بعد. كذلك الأمر بما يخص الرواية العربية، فالحكائية العربية، ليست ميداناً عارضاً، أو هي موضوعاً للتجاوز الحتمي، نحو الأشكال والصياغات «الحديثة»، وإذا بدت هذه سهلة وممكنه بالتدريب، أو الموهبة / ليس أي نوع من المواهب / فإن غيرها، قد يكون عسيراً وصعباً، وهو يحتاج إلى ما يتعدى، وما يفوق المحاكاة والنقل. فالحداثة الروائية العربية، قد تكون ما زالت تنتظر، وأنها حسب حكم «التاريخ»، كان لا بد لها أن تعبر هذه الفترة الأولى من «التحديث»، أي التحديث الذي عرفناه حتى اليوم، واتسم بالمحاكاة القريبة من الترجمة والنقل.
فالحكائية الروائية العربية، ومن دون العودة إلى التذكرات المعتادة، عن أُصول الأشياء، وأزلية المنجزات العربية، هي أثر كبير وعالمي، قد يكون من الصحيح بقدر ما، أنه يكمن في خلفية الرواية العالمية، أو هكذا يميل من ينظر في التاريخ للإفتراض، ولقد سمعنا من كتاب أوربيين وأميركيين لاتينيين، أقوالاً عن «الف ليلة وليلة»، أكدت أن ذلك الكتاب هو «كتاب الكتب» الملهم، ولا داعي لأن نصر على إثبات قيمة ذلك العمل العظيم، فالذي يهمنا بهذه المناسبة، أبعد، ويتعلق فقط ليس في هذا الجانب التشاوفي الحضاري، بل بخطورة الأسئلة والأجوبة، التي تطرح على هامش هذه القضية الكبرى. وهذه الأسئلة يمكن إختصارها في: هل الرواية الحديثة الغربية، هي التطورالطبيعي للحكائية العربية؟ أي هل الرواية التي أخذناها عن الغرب اليوم، هي بضاعتنا التي ردت الينا معدلة ومطورة؟ أم أن ما حدث للحكائية العربية على يد الغرب، لا يتوفر تماماً على الإستمرارية التي نتحدث عنها، ونعرف أنها منجزنا في الماضي؟
عبد الأمير الركابي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد