إتلاف القارئ

09-06-2012

إتلاف القارئ

قد لا تبدو الثقافة العربية الحديثة على كثير تماس مع روايات الخيال العلمي، على الرغم من نزوع بعض الكتّاب القلائل والمعدودين (وبعيدا عن أيّ حكم نقدي)، إلى كتابة هذا النوع بالعربية، وعلى الرغم من أني أميل إلى اعتبار أن «ثقافتنا الكلاسيكية» أفردت حيّزا لهذا المجال، على الأقل فيما لو اعتبرنا أن «البساط السحري» وحكايات السندباد تشكل جزءاً من هذا المناخ. في أيّ حال، ربما أيضاً، لأننا نميل دائماً إلى كتابة «القضايا» الكبيرة، المؤدلجة، التي تريد تغيير العالم وتحويله، مع المفارقة الكبرى، أننا لا ننتبه فعلاً إلى هذا العالم ولا نتخيّله حتى.
فكرة طارئة مرت على خاطري وأنا أقرأ أمس خبر غياب الكاتب الأميركي راي برادبوري (رحل الأربعاء الماضي) الذي يعتبر بحق «شاعر الخيال العلمي»، والذي حمل هذا النوع الروائي إلى مصاف الأدب الكبير (وأنتبه هنا إلى جملتي الأخيرة، وكأني أقول إن هذه الرواية، رواية الخيال العلمي، ليست جزءاً حقيقياً من الأدب. هي العادة والتربية التي تجعلنا لا نقيم وزناً فعلياً لهذا النوع الكتابي) عبر مجموعة من الأعمال الفريدة، لعلّ أشهرها «فهرنهايت 451»، وهي الرواية التي حوّلها المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو إلى شريط سينمائي عرف بدوره نجاحاً كبيراً.
أي تحيّة للكتاب والثقافة يمكن أن نجدها أكثر ممّا نجدها في هذه الرواية التي تدور حول همّ السلطة وسعيها إلى إتلاف الكتب. إذ وكما نجد في رواية جورج أورويل 1984 يندد برادبوري بذاك المجتمع التوتاليتاري حيث تختبئ البربرية خلف دعاية الإعلام الذي يسوطنا، ليل نهار، والذي يعتبر الكتب خطرة لأنها لا تتوقف عن الدفع إلى التفكير أي أنها تحمل أفكاراً خطرة. (والدرجة «فهرنهايت 451»، هي الدرجة التي تبدأ فيها الأوراق بالاحتراق).
لكن الفكرة الجميلة الأخرى التي نسمعها في الكتاب هي قول الكاتب، عبر إحدى شخصياته «ليست هناك حاجة لإتلاف الكتب كي ندمر ثقافة، يكفي أن نجعل البشر يتوقفون عن قراءتها».
كتبت هذه الرواية في بداية خمسينيات القرن الماضي، بيد أنها تبدو وكأنها كتبت اليوم، على الأقل هذا ما نشعر أنه يحدث عندنا من تدمير للثقافة عبر منع الكتب بفتاوى لا تعرف كيف تصدر ولمَ، وهي إن دلّت على شيء، فعلى هذا المنع المستمر للقراءة وتدميرها، ناهيك عن السلطة المسيطرة على أغلبية دولنا والذي يسوطنا إعلامها عبر «الأخ الأكبر» (العبارة لأورويل)، وكأننا فعلا نستعيد صورة بطل الرواية، الاطفائي، الذي لم تكن مهمته إطفاء الحرائق، بل... إشعالها.
ربما كل شيء يشتعل حالياً. حرائق ممتدة في كل الأمكنة، ووحدها الكتب تقبع وحيدة، إذ ليست خائفة من أن تظهر كما في الرواية لكي يتم إتلافها، بل لأن القارئ قد تم إتلافه وتغييبه منذ أزمنة...

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...