إلفريدة يلينك في قلب اليأس المعتم

19-07-2012

إلفريدة يلينك في قلب اليأس المعتم

لم يخفت غضب الكاتبة النمسوية إلفريدة يلينك وراديكاليتها، على أثر نيلها جائزة نوبل للآداب عام ٢٠٠٤، ولعل هذا يتجلى في نصها الجديد الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً لدى دار «سوي» (Seuil) بعنوان «الرحلة الشتوية»، ويتألف من مونولوغات ثمانية تعيد يلينك فيها ابتكار لغة المسرح نفسها بجعلها أقرب إلى «التجشؤ» الحميم.

وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن النص مستوحى من المعزوفة الأخيرة التي ألفها الموسيقار النمسوي الكبير فرانز شوبرت انطلاقاً من القصائد التي كتبها الشاعر الألماني ويلهايم مولر وجمعها تحت العنوان نفسه. معزوفة استخلص النقاد فيها أربع مستويات قراءة نجدها حاضرة ومترابطة في نص يلينك بعدما أعادت ضبطها وفقاً لهواجسها وزمننا. وفي هذا السياق، يمكن أن نقرأ هذا النص كمحاولة استكشاف مباشر للجانب الحميم من حياتها ولآلامها العاطفية من خلال استحضارها شخصيتَي والدتها المدمرة ووالدها المجنون، وكتأمل في الزمن وفي وضع الكائن البشري المتخبط أبداً في وحدته وتيهه وموته المحتَّم، وكخطاب نقدي لاذع موجه إلى حقبتنا التعيسة، وأخيراً كنشيد مرير لكاتب لا أحد يريد الإصغاء إليه.

وكما في نصوصها السابقة، ثمة جانب سياسي في نص يلينك الجديد يتجلى في الغضب الذي تصبه على وطنها، سائرةً في ذلك على درب مواطنيها العملاقين روبرت موزيل وتوماس برنهارد. وفي هذا السياق، تتوقف عند فضيحة بنك «هبيو غروب ألبي أدريا» وتقارب بسخرية عالية رياضة التزلج التي يمارسها معظم النمسويين، وتفضح الخبث الحقود للرأي العام النمسوي في قضية الفتاة ناتاشا كامبوش التي اختطفها شاب وهي في العاشرة من عمرها وعاشت ثماني سنوات سجينةً في منزله...

أما الموت الذي يظلل معظم كتاباتها، فنجده حاضراً هذه المرة كموضوع رومنطيقي، كمفهوم فلسفي، ولكن أيضاً كخصم، فضمن عراك ثابت معه ومع الزمن، تتحرك عملية السرد فتنتشر أو تراوح مكانها، مبتكرةً وسائل للبقاء أو للكتابة في غياب أي مستقبل أو رؤية أو مشروع.

نص ثقيل وخانق إذاً يُجبر قارئه على بذل جهد كبير لاختراق يأس كاتبته المُعتِم والكثيف، حيث الهوة دائماً على مسافة خطوة صغيرة؛ نص لا يستحضر معزوفة شوبرت المذكورة بتناغم يفتقد له، بل بكآبة خطابه المأتمية وطبيعة لغته التي تبتعد عن أي إغراء وتحفر معاني الكلمات وأصواتها داخل قالب واحد وتتلاعب بإيقاعات الجُمَل وتداعيات الأفكار.

ولعل الأسلوب الشفهي اللاهِث الذي تعتمده يلينك، ويتبع نمطاً اجترارياً، هو الذي دفعها إلى إدراج نصها في ميدان الكتابة المسرحية، علماً أنها تمارس بشكل واسع فيه فن التشويه، فالشخصيات ليست شخصيات مسرحية بالمعنى الحقيقي والمشاهد التي تظهر فيها تبدو مرسومةً بسرعة واقتصاد في التفاصيل لا يسمحان لنا بالجزم في حقيقة ما نراه. أما الحوار فيقتصر على مونولوغات طويلة بضميرَي المتكلم: «نحن» و «أنا». الضمير الأول يجسد صوت الشعب أو الرأي العام الوقح والتقليدي التفكير، والضمير الثاني يجسد الفرد المعزول أمام الجماعة التي تريد تحطيمه، كما يجسد الكاتبة التي تتكلم ضد الـ «نحن» في محاولة منها لإنقاذ فرادتها، والمدافعة عن المضطهدين والغرباء والمجانين. وفي ذلك يقترب نصها من مسرح أنتونان أرتو وأسلوبه ونظرته إلى الأدب كصرخة يرفض المجتمع أن يسمعها.

بعض النقاد الفرنسيين انتقدوا الحرية الكبيرة التي أخذتها يلينك في كتابة هذا النص معرضةً إياه إلى خطر انعدام فهمه واستحالة قراءته، متناسين أن الحلم أو الطموح الأسمى للكاتب يكمن تحديداً في بلوغه نقطة الالتباس هذه، الناتجة عن دفع اللغة بعيداً في اتجاه التجريد او الموسيقى، كما هو الحال مع لوي فردينان سيلين وجيمس جويس. بل تتوافق حالة انعدام التوازن التي نشعر بها طوال قراءتنا لهذا النص الوعر مع موضوع التيه والبحث العبثي عن الراحة الحاضرة بقوة فيه، وتشكل في الوقت ذاته خير ترجمة له.

باختصار، يتطلب نص يلينك، للتمتع بكامل أبعاده وطاقته، قراءةً خاصة، فنظراً إلى طبيعته وخلفيته الموسيقيتين، لا بد من استخدام صوت عال، ولو مكتوم. وفقط بفتحنا مسرحاً داخلياً لخطابه المتعدد يكشف لنا عن قوته الهزلية وعنفه، تماماً كنصوص صموئيل بيكيت الذي يتشارك مع يلينك أكثر من هذه النقطة وكان بإمكانه أن يكتب هو أيضاً: «لكن الزمن هو أنا بالذات! لا يمكنني تمثيل نفسي بطريقة أخرى. فقط كزمن يمكنني أن أتخيل ذاتي، فقط كشيء يتوارى».

أنطوان جوكي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...