توني موريسون: أتعلم كثيراً حين أكتب وأترك نفسي تنقاد لكتاباتي
«وطن» (أو بيت) عنوان الرواية الأخيرة للكاتبة الأميركية توني موريسون، (وقد صدرت حديثاً بترجمة فرنسية عن منشورات بورغوا)، وتستعيد فيها واحدة من أكثر موضوعاتها شيوعاً: العنصرية تجاه السود التي عرفوها. لكنها هنا، لا تنتقل إلى التاريخ البعيد، بل تموضع الأحداث في خمسينيات القرن الماضي، بعد الحرب الكورية، إذ يعود شخص مسن إلى قريته، ليجد شقيقته الصغرى، بعد أن كان غادرها من زمن طويل.
وفي هذه المنطقة التي تغيرت، تبني موريسون كل عوالمها، التي جعلت منها سيدة الأدب الأميركي الحديث. مجلة «لو نوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية، اجرت مع الكاتبة حواراً مطولاً، هنا أبرز ما جاء فيه.
في كتابك السابق اهتممت بساعات العبودية الأولى في أميركا. مع رواية «وطن»، تحددين الإطار في خمسينيات القرن الماضي، وهذا الإطار لا علاقة له بماضي البطاقات البريدية التي تشعر الولايات المتحدة تجاهه بالحنين؟
ـ بالنسبة إليهم «كان الزمن الجميل»، كان يبيعون لنا «السكاكر». بعد انتخاب أوباما، العام 2008، وحين أعلن جميع اليمينيين بالقول: «عليهم أن يعيدوا إلينا بلادنا»، لكن عن أي بلاد كانوا يتحدثون؟ عن القرن الثامن عشر؟ «أرغب في أن يعيدوه إليّ. أرغب في أن يعود بلدي إلى ما كان عليه». بالنسبة إلى الغالبية، كانوا هؤلاء ينتمون إلى فئة عمرية محددة وكانوا يفكرون بطفولتهم، بتلك الخمسينيات حيث كانت هناك كل تلك الوعود.. صحيح أنه مع الحرب كانت هناك أعمال جيدة وكثيرة، حتى أن والدي استطاع أن يحصل على عمل. صحيح أيضا أنه بعد عودتهم من الحرب حصل الجنود على منح جامعية. حتى وإن شهد ذلك الوقت الكثير من العنف والظلم، والحركة المعادية للشيوعية، العنصرية...
فرانك، الشخصية المحورية في روايتك، شارك في الحرب الكورية. لكن حين نتذكر الخمسينيات نجد أننا لم نتكلم كثيرا عن العنصرية التي تعرض لها الجنود السود بعد عودتهم من الجبهة...
إننا لا نتكلم عن ذلك مطلقاً...
تتحدثين في «وطن» عن نوع من معركة بين البشر، تشبه صراع الديكة، كانت تجري بين السود وكان على أحدهم أن يموت تحت أنظار البيض. هل كان الواقع مرعباً إلى هذا الحد؟
ـ أجل، كان ذلك موجوداً في الخمسينيات وما قبلها. علينا أن لا ننسى أن عمليات الإعدام كانت أشبه بنزهة عامة. ثمة جانب قروسطي في ذلك، كما يظهر ذلك في صور الجثث، حيث يقف البيض إلى جانبها، إلى جانب الجثث، وهم يبتسمون ويأكلون، إذ كانوا يذهبون برفقة أولادهم لمشاهدة هذا العرض. الأنكى، كانت هناك المقصلة.
وفي الوقت عينه، شهدت سنوات ما بعد الحرب النضال الكبير من أجل الحقوق المدنية التي عرفتها الستينيات. إذ لم يظهر مارتن لوثر كينغ من العدم...
بالتأكيد. لم تقل روزا باركس، ببساطة، ذات يوم: آه، أريد أن أجلس في هذا المكان في الباص!». كانت عضوة في الرابطة الأميركية للدفاع عن حقوق الشعب الأسود، منذ أمد طويل. وحين كان ناشطو الستينيات يختبئون ويدفعون الناس للتصويت، كانت ثمة شبكة موجودة لكي تساعدهم.
هل لديك ذكريات عن ذلك؟
ـ كنت طالبة في السابعة عشرة من عمري. ذهبنا للقيام بجولة في الجنوب مع فرقتي المسرحية. كانت المرة الأولى بالنسبة إليّ، إذ لم أذهب قبلا إلى جنوب واشنطن حيث كانت هناك العديد من الممنوعات لكن حيث أقيم في محيط رائع لجامعة سوداء. بيد أنه لم يكن من السهل بالنسبة إلى الجامعة تنظيم مكان الأكل والنوم. كنا نحجز غرفاً قبل أسابيع وحين نصل كان من المستحيل أن نمضي الليل فيها.
أذكر أستاذا كان يرافقنا، الدكتور لافيل. بعيد وصولنا إلى إحدى المدن، كان يتفحص صفحات الدليل الصفراء ليحدد لنا كنائس السود. يتصل بها هاتفياً ويجيبه المسؤول عنها «امهلني عشر دقائق أو ربع ساعة». وحين يعاود الاتصال به نجد أن هناك ستة من أبناء الرعية ليستقبلونا. يا للسعادة! لم يكونوا كرماء فقط، بل تخيل الطعام والشراشف التي تفوح منها الروائح العطرة. لم تكن هناك آلات تجفيف للغسيل، بل كانوا يضعونه على الأشجار..
النضج
بطل الرواية هو رجل، وهذا أمر لم نعتده في كتبك. وبدقة أكبر، إنه شاب أسود ينتقل إلى سنّ الرشد..
ـ نعم، إنه أمر صعب جدا بالنسبة إليه. رغبت في أن أطور مفهوم الرجولة، بحيث لا تختصر فقط ضرب الناس أو قتلهم. أي أن تكون نضجاً.
لقد غادر البقعة التي عاش فيها طفولته، والتي كان يكرهها، وفي النهاية حين عاد، كان كل شيء قد تغير..
لقد زار الأماكن كلها، سافر. ربما كانت منطقته فقط، مملة، بلا طعم، مضجرة. لكن المهم ليس في المغامرة، بل في كيف يصبح المرء راشداً. لقد نشأ فرانك هنا، وفي هذا المكان أصبح راشداً. وفي هذا المكان أيضا العديد من الأشياء المهمة، وهنا يساعد الناس بعضهم البعض. يمكن لأي غريب أن يصل إلى هذه المنطقة وسيجد من يساعده. ليسوا بحاجة لأن يحبوه كي يقوموا بذلك. لا أعرف أين يمكننا أن نجد ذلك اليوم.
لقد اهتموا بالجدة سي، المكروهة، التي كانت شقيقة فرانك، وأنقذوها.
النساء اللواتي أنقذنها كنّ أميات، بيد أنهن يملكن مواهب. يعرفن الإصغاء، يتذكرن كل شيء. لم يكن لديهن الخيار. لو قرأت عليهن آية من الإنجيل لتذكرنها لأنهن لا يعرفن أبداً القراءة، بينما أنا لا أتذكرها...
أسلوب مقتصد
الغريب، في هذه الرواية، رؤية إلى أي درجة أصبح أسلوبك مقتصداً، على الرغم من أنه لا يزال يحتفظ بقوته..
ـ اهتمم بقول أشياء كثيرة، وبعناية، عن الخمسينيات من دون أن أمعن النظر بجميع الأحداث، من دون أن أصف أدق تفاصيل الشخصيات، رغبت أن أكتب كتابا أصغر من كتبي السابقة، هذا كل ما في الأمر. وقد أعجبتني النتيجة، لكن توجب عليّ إيجاد وسائل أخرى لإعادة ترميم الزمن الذي ينثال...
الإيقاع، موسيقى النثر؟
وأشياء أخرى أيضا. على سبيل المثال، نزعت كل صفات الألوان في بداية الرواية. يعاني فرانك من مشكلات بنظره، ولا يرى الأشياء سوى بالأبيض والأسود. في النهاية، حين يعود إلى منطقته، تعود إليه الألوان بأسرها. ربما لن يلاحظ القارئ ذلك، بيد أن ذلك هو ما يحيل المدينة أكثر راحة لفرانك، أكثر جمالا. نشعر بالغربة في الذهاب إليها حتى وإن كان هو، فرانك، لا يرغب في العودة إليها.
قيل إنك أعدت اختراع أسلوبك بالكامل في هذا الكتاب..
ـ من المحتمل. لكن وكما تعرف، كل كتبي مختلفة بعضها عن بعض.
ألا تسقطين بذلك في مشكلة الكاتب الذي يشيخ ويبدأ بتكرار الكلام...
ـ أبداً، أتعلم كثيرا حين أكتب، لا أريد أن أكتب عما أعرفه. اترك نفسي تنقاد بالحشرية: هل حدث ذلك حقا؟ هل كان عليه الأمر بهذا الشكل؟ أقوم بالكثير من الأبحاث وانطلاقا من ذلك أطور الحالة.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد