رواية «فنانة الجسد» لدون دوليلو.. صوت الداخل
لا أعرف إن كان يمكن تسمية ذلك بغرائب الترجمة عندنا، بمعنى أن بعض الكتب تترجم لمرتين أو أكثر، بينما العديد من الكتب والكتّاب لا يحظون بأيّ نقل إلى العربية، ولا حتى يدخلون إلى المشهد الكتابي عندنا. بهذا المعنى تبدو رواية «فنانة الجسد» للروائي الأميركي دون دوليلو، التي تصدر في ترجمة جديدة هذه الأيام عن منشورات «المدى»، بترجمة لأسامة منزلجي، بعد أن صدرت بالعربية قبل سنوات بترجمة لمحمد عيد ابراهيم.
في أيّ حال، ونظراً إلى أهمية دوليلو في المشهد الكتابي اليوم في العالم، أعتقد أنه كان من الأجدر أن يترجم له كتاب ثانٍ، على الرغم من أن الترجمة الأولى لهذه الرواية لم تكن كثيرة الجودة، وكنا بحاجة لأن نقرأها بقلم منزلجي الذي أعطى العديد من الترجمات الرائعة. والسؤال الذي أسوقه، هل أن رواية «فنانة الجسد» تعطي حقا فكرة عن هذا الكاتب الذي يحظى بمكانة خاصة. أقول ذلك، لأن الروائي عرف عنه هذه الروايات التي تقترب من النفس الملحمي العملاق، التي نجد فيها أصداء وأصوات تلك البلاد بكل اختلافاتها ومفارقاتها.
حين صدرت هذه الرواية في الولايات المتحدة، بدت بمثابة مفاجأة ما، إذ رسمت خطاً حميمياً، صغيراً، «مينيماليا» (بمعنى التيار الأدبي الذي عرف ازدهاره)، ليأتي على خلاف جذري مع تلك الروايات الأشبه بالفريسك، الذي عمل عليها دوليلو، من هنا أطلق النقد عليها، يوم صدورها القول إن الروائي تحول من الكتابة السيمفونية الكبيرة إلى كتابة موسيقى الحجرة. السمة الأخرى التي تميزت بها هذه الرواية، كانت غياب أي نوع من أنواع الحبكات الروائية، وبخاصة أنه عُرف عن الكاتب ميله الدائم إلى «متانة الحبكة».
ما يفعله دوليلو هنا يبدو أشبه بنوع من الهمس، من الارتعاش، من سبر أغوار غير المحسوس، ليرسم صورة عن الأحاسيس الهشة كما عن الأرواح الداخلية، ليبتعد عن رواياته الموسومة بالحكاية السياسية.
«فنانة الجسد»، رواية عن سبع لحظات من حياة امرأة (لورين هارتكي)، تتواجه بداية مع زوجها عقب غيابه انتحاراً (في شقة زوجته الأولى في مانهاتن). ما من شيء يجمع هذه الأزمنة، إذا استثنينا تسلسلها الكرونولوجي وانسياب خفايا الزمن. لذلك نحن أمام نص متشظ، تعيد القراءة تركيبه وتكوينه من جديد. هي قصة هذه المرأة التي تفقد نقاط استدلالها بعد غياب زوجها، وربما أيضاً تفقد ذاكرتها الآنية، إذ تجد أن الوقائع تختفي من أمامها لتغرق في نوع من الجنون، لم ينقذها منه إلا فنها، فن الجسد، إذ تجعل من جسدها أداة تتوزع ما بين المسرح والرقص الذي تمارسه في بيتها الواسع. في واقع الأمر يتلخص هذا الفن في مراقبة جسدها، في التدقيق بالتحولات التي تصيب وجهها من جراء مرور الزمن. كذلك تحب أن تراقب الأشياء، الكائنات، العصافير التي تضربها الشمس والتي يستهلكها النور. كانت تسجل كلّ شيء يمر بها، كما لو أنها عالمة زلزال تحاول أن تدرس كلّ الإمكانيات المتوقع حدوثها.
عبر هذا التأمل، إذا جاز التعبير، يدخلنا الكاتب عبر هذا الخطاب الداخلي إلى قلب وعي لورين. يتيح لنا أن نسمع صوتها، يجعلنا نشعر بقلقها وعدم اطمئنانها. بيد أن جنوح السرد إلى تلك المناطق القاتمة، إلى رغبته الكبيرة في القبض على ذلك غير المحسوس، تبدو الرواية، في عدد من مواضعها وكأنها تنحو إلى أن تفقد اتجاهاتها ونقاط استدلالها. على الرغم من أن الرواية لا تقف عند هذه الحدود بل إنها تستعيد موضوعة قديمة من موضوعات الأدب: فكرة القرين، عبر شخصية كاسبار هاوسر.
في أي حال، نجد كل دوليلو هنا، وبخاصة السمة البارزة التي عرفت عنه بأنه أحد «معلمي» الغموض والإبهام. من هنا تأتي قراءة كل واحد منا لتعيد إبداع هذه «الرابسودي» التي تستحق أن تقرأ.
إسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد