الفيلم السوري «صديقي الأخير» إنعاش «المشتركات» والعزف على وتر الحب
تقول الحكاية إن طبيباً ذائع الصيت أقدم على الانتحار بعدما وصلته تقارير طبية من بلاد «برّا» تؤكد له أن ثمة أملاً من شفاء زوجته الفرنسية التي يشرف على علاجها وكان وصل إلى طريق مسدود دفعه لأن يضع حداً لمعاناتها مع المرض بناء على طلبها، الطبيب خالد المنتحر «عبد المنعم عمايري» يترك وراءه أشرطة فيديو تحوي أهم محطات حياته وعلاقاته بما فيها سيناريو مفترض يجيب فيه عن أسئلة متوقعة من المحقق الذي سيتولى التحقيق في قضية الانتحار ويشرح فيها مواقفه وآراءه واعترافاته...
الشريط يقع بين يدي العميد يوسف «عبد اللطيف عبد الحميد» الضابط الذي توكل إليه مهمة التحقيق كآخر مهمة له قبل إحالته إلى التقاعد يساعده فيها النقيب أمجد «مكسيم خليل» الضابط الشاب الذي تعلم على أحدث وسائل التحقيق العصرية أثناء إيفاده إلى الخارج ومن خلال التحقيق في القضية وعبر الأشرطة التي سجلها الطبيب المنتحر الذي ترك وراءه طفلة متبناة تتكشف حكايا ناس من ألم وحلم وقهر...
شروخات... وتحد
ذلك هو المحور الأساس لحكاية فيلم «صديقي الأخير» لجود سعيد الذي افتتح عروضه الجماهيرية في صالة كندي دمّر مساء الأربعاء، وفيه يقبض الفيلم على وجه الحالة السورية المجتمعية قبيل الأزمة ليبدو الشرخ واسعاً لجهة التلقي هنا بين حال السوريين قبل الأزمة وإسقاط ذلك على الحالة الراهنة من مشاهدي الفيلم الذين لا يمكنهم بطبيعة الحال فصل تلقي فيلم سوري حديث عما تمر به البلاد وهنا يأتي التحدي الكبير لفريق العمل والجهة الإنتاجية «المؤسسة العامة للسينما» و«فردوس دراما» وخاصة أن الفيلم يتضمن إسقاطاً سياسياً أو رسائل سياسية لجهة بعض المآلات في المنحى العام وإن أظهر الفيلم على نحو توثيقي لا لبس فيه الفترة التي يتناولها الفيلم أواخر العام 2010 وبدايات 2011 وسقوط زين العابدين بن علي الرئيس التونسي المخلوع في إشارة أيضاً إلى مقتل أسامة بن لادن واغتيال رفيق الحريري وهذه إشارات استعادية جاءت عابرة على لسان الطبيب خالد في استعراض لمواقفه وآرائه...
استباحة... ونفوذ
«صديقي الأخير» الذي كتب السيناريو له جود سعيد بالتشارك مع السيناريت والكاتب الفارس الذهبي وعبر لغة سينمائية عالية واشتغال على البنية البصرية يمسك على حالة النقاء السوري عبر عديد من شخصيات الفيلم في مواجهة وجوه من القبح والجشع والفساد والتسلط والتعدي على إنسانية الإنسان وزجه في مستنقعات استباحية عفنة في إظهار للمآلات على مستوى ذهنية مجتمعية أفرزها اللهاث نحو المال والسلطة والنفوذ في مواجهة طبقات أو شرائح اجتماعية طيبة وبسيطة حيث تتبدى الشروخات على أشدها أيضاً بين بيئات فقيرة مهمشة ينتصر لها «أخلاقياً» الطبيب المنتحر وأخرى غنية تحصل على ما تريد عبر النفوذ والمال وتجد ضمن هذه البيئة وتلك: النبل والحب في مقابل الجشع والوصولية وحب التملك والوصول إلى دوائر القرار عبر استغلال حاجات الناس وفقرهم وطيبتهم وانعدام سبل الحياة الكريمة أمامهم...
انحدار... عفوية وإدهاش
إلى جانب شخصية الطبيب خالد المنتحر فإن الشخصية الأبرز في الفيلم مثلها العميد يوسف «عبد اللطيف عبد الحميد» الذي بدا أنه في حالة موات ويأس وهو يفقد الأمل بالمحيط جراء انعدام القيم وانحدارها إلى الحضيض لتأتي ملابسات قضية انتحار الطبيب لتعيد إليه الثقة وإحساسه بالحياة والأمل وهو يتعرف إلى شخصية الطبيب خالد والطفلة نايا كزهرة تجعله يورف من جديد. وأن الحياة الأجمل هي في الغد وقد جسد الفنان عبد اللطيف عبد الحميد هذه الشخصية بأداء بدا عفوياً على غاية من الإدهاش والبراعة منقطعة النظير ولو قدَّر للفيلم أن يشارك في مهرجانات دولية لحصد عبد اللطيف عبد الحميد أفضل الجوائز ممثلاً من طراز فريد وهو الذي في جعبته «مخرجاً» الكثير من الأفلام التي حصد الإعجاب واستحقت عن حب وجدارة الاحترام.
تهكم... أقنعة وعفن
الفيلم وعلى مدى ما يقارب الساعتين نجح في شد الأنظار والتفاعل عبر سرد حكاياته المفعمة بالعاطفة والشاعرية في قالب درامي مطعم بالكوميديا السوداء والسخرية والتهكم عبر مفارقات تعاطي الأجيال مع التقانة العصرية التي غزت الحياة وأصبحت من مفرداتها اليومية في حياة وسلوك الأسر بما في ذلك دخول «العصرية» في مختلف جوانب الحياة ومفاصلها لتطل برأسها حتى على خيارات المحققين «النقيب أمجد» الذي يمثل في الفيلم الشخصية «الراقية» التي تخفي المزيد من الأقنعة والعفن والوصولية.
الجماهيري والنخبوي
فريق العمل لم يضمن الفيلم مقولات كبرى أو أشكالاً من الأدلجة والقضايا الكبرى ذلك أنه اشتغل على البساطة في إظهار للحالات الإنسانية المشاعرية والعاطفية في أشد حالاتها نبضاً على مستوى الألم والحزن والفرح لينجح في مد جسور مع الجمهور وهو يجسد ألوان طيف مشعة ويضع يداً على جرح في محاولة لزرع أمل وفي تحد لاستعادة الجمهور وهذا ما اشتغل عليه الفيلم على أكثر من صعيد ذلك أن الفيلم يمكن وصفه بجماهيري الطابع لجهة اللغة والحوامل والمفردات وهو يدخل إلى الحارات الشعبية وتشاكلها مع الحياة بعيداً عن النخبوية وتمثيلاتها المعقدة.
فكفكة.. وإنضاج.. ونار هادئة
«صديقي الأخير» الفيلم الذي تضمن خطاً بوليسياً هو الطويل الثاني لمخرجه بعد «مرة أخرى» 2009 واعتمد فيه جود سعيد خريج المدرسة الإخراجية الفرنسية (2006) على فكفكة الخيوط على مهل وبشاعرية لا تهمل جوهر الإنسان النبيل والوحش في تسليط للضوء على آلامه وأوجاعه وأحلامه وبدا أنه وتبعاً لحبكات القصة أهمل الكثير من التفاصيل «عائلة د. خالد» وانحاز الأخرى واضعاً هنا بعين الاعتبار توقيت عرض الفيلم الذي كان من المفترض وتبعاً لمراحل أجندة الفيلم أن يعرض في نيسان الماضي ما جعل الفيلم في نسخته الأخيرة المعدة للعرض يهضم الحكاية وينضجها على نار هادئة كحدث من حيث السيناريو والصورة بتكثيف عالي الطرح وإن جاءت مساحات لحضور شخصيات على حساب أخرى ولكن ذلك جاء كما أزعم لمصلحة الفيلم في لغته العالية ليكون واحداً من أهم الأفلام السورية، بيد أن عبد اللطيف عبد الحميد أضاف هو الآخر لمساته وليسجل جود سعيد اسماً له قوياً في خارطة السينما السورية كواحد من المخرجين الشباب الذين بصموا على نحو لافت بصرف النظر هنا عما يمكن أن يقال عن فرص تمنح لمخرجين وتحجب عن آخرين، ففي النهاية ما يجعل النتاج السينمائي مشروعاً هو قيمته الفنية وخصوصية الاشتغال عليه إبداعياً من حيث المضامين والمقولات والطروحات وأشكال التناول وأحسب أن جود سعيد في «صديقي الأخير» أثبت علو كعبة مخرجاً والحكم دائماً للجمهور.
البطاقة الفنية
لفيلم صديقي الأخير
البطاقة الفنية: إنتاج المؤسسة العامة للسينما وشركة فردوس للإنتاج والتوزيع الفني.
سيناريو: جود سعيد والفارس الذهبي.
إخراج: جود سعيد.
تمثيل: عبد اللطيف عبد الحميد، عبد المنعم عمايري، مكسيم خليل، لورا أبو أسعد، سوسن أرشيد، فادي صبيح، جرجس جبارة، جمال العلي، هبة نور، مأمون الخطيب، مازن عباس، جمال قبش.
علي الحسن
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد