الفودكا.. أو «ماء الحياة» عند الروس
يحاول الناس على مدى العصور فك لغز النفس الروسية ومحاولة فهمها والكشف عنها. ولكن البعض يرى أن ثقافة روسيا لن تكون غنية جدا ومتعددة الأوجه، إن لم يكن هناك المشروب الوطني، أي الفودكا الروسية. ولم تكن الفودكا في روسيا مجرد سمة أساسية من أحداث الحياة الأكثر أهمية، ولكن أيضاً جزءاً من تاريخ هذا البلد العظيم.
ذات مرة عندما كان وفد روسي في القسطنطينية، قدم لهم من بين الضيافة مشروب روح العنب، وقد أعجب الضيوف الروس بهذا المشروب إلى حد أنهم قاموا لدى عودتهم إلى الوطن بتصنيع أول جهاز تقطير الكحول.
بدأ الناس يستخرجون الكحول من الحبوب، بسبب عدم إمكانية نمو العنب في روسيا. وقد أصبح المشروب القوي الذي أطلق عليه اسم «أكوا فيتا»، ويعني في اللاتينية «ماء الحياة»، النموذج الأولي من الخمور الحديثة. ثم إن كلمة «الفودكا» مشتقة من كلمة من المياه، بينما في أوقات سابقة كانت تستخدم مصطلحات أخرى للدلالة على هذا المنتج مثل النبيذ (خمر الخبز) والنبيذ المقطر، والنبيذ الساخن، والنبيذ المحترق والنبيذ المر، الخ.
في البداية، استخدم الصيادلة هذا الإكسير الساحر لإعداد الصبغات الطبية والعطور ولكن هذا التنكر لم يدم طويلاً بسبب «الطاعون العظيم» الذي حل في العام 1348. حينها لم تكن هناك أدوية تقي الناس من «الموت الأسود» ولهذا لقي الآلاف حتفهم، ومن شدة اليأس لمعت فكرة لدى الأطباء وهي محاولة استخدام الكحول لعلاج هذا المرض. وعلى الرغم من أنه سرعان ما اتضح أن الكحول ليست علاجاً من الطاعون، إلا أن الناس أعجبوا بدواء الكحول هذا، ومن ذلك الحين استولت المياه الساحرة على قلوب الناس وعقولهم.
يبدأ تاريخ التقطير الروسي فعلياً في الفترة الممتدة بين العام 1448 والعام 1478، وتم اختراع تكنولوجيا تقطير الكحول من الحبوب والمواد الخام المحلية. وهذا ما تؤكده حقيقة أنه في العام 1478، قام إيفان الثالث بأول احتكار للدولة على إنتاج «النبيذ من الحبوب». وفي عهده ظهرت للمرة الأولى أماكن لاحتساء الكحول والتي سميت باللغة التترية بالحانات.
وصل مستوى الإدمان على الكحول في روسيا إلى حد لم يسبق له مثيل في عهد بطرس الأول حيث هيّأ الظروف من أجل «الشرب المفرط والمستمر». لقد كان المصلح العظيم يحتاج إلى الكثير من المال لبناء روسيا. وبفضل السماح قانونياً في استهلاك الكحول، تدفقت الأموال الضخمة إلى خزائن الدولة. لكن الخزنة والدخل أمر، والإدمان على الكحول أمر آخر. فبهذه الحالة لن يكون هناك من الناس من هو قادر على حرث الأرض وبناء الأسطول أو الخدمة في الجيش، لذلك كان من الواجب أن يحتسي الناس باعتدال وبصدق.
أما كاترين الثانية، البراغماتية، فقد أخذت موضوع إنتاج النبيذ على محمل الجد، وقالت إنها تعرف أن النبلاء، متجاوزين احتكار الدولة، يقومون بإنتاج الفودكا في المنزل ولهذا قامت بفرض رسوم على تراخيص تسمح لهم بالقيام بذلك. ولهذا ظهر في هذا العصر العديد من أنواع وأصناف الفودكا الروسية.
في عهد الكسندر الثاني، ثم خلفه الكسندر الثالث ونيكولاي الثاني، زادت روسيا من قوتها الاقتصادية وأخذت تمارس تأثيراً متزايداً في السوق العالمية. وبطبيعة الحال، تطورت صناعة «النبيذ» بسرعة كبيرة وأصبحت أحد القطاعات الأكثر ربحا في الاقتصاد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبذلك حصل صانعو الفودكا الروسية على شهرة في جميع أنحاء العالم.
ساهم العديد من العلماء الروس المعروفين في تحسين نوعية الفودكا. وكان الكيميائي الروسي العظيم ديمتري منديليف أكثر حظا من الآخرين حيث تمكن من حساب النسبة المثالية من الماء والكحول، للحصول على الفودكا اللذيذة. وفي العام 1894، تم تسجيل براءة اختراع لهذا المشروب الروحي القوي تحت اسم «موسكو الخاصة».
وبحلول بداية القرن الماضي، أصبح السكر في روسيا حالة انتشرت على نطاق واسع لدرجة أن الحكومة اضطرت إلى تنظيم مجتمع لا يتناول الكحول إلى حد كبير. وفي نهاية العام 1914 فرضت الحكومة حظرا على إنتاج الفودكا وبيعها، واستمر إلى ما يقرب العشر سنوات.
وفي العام 1924، ألغى الزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين قرار حظر الكحول، علماً أنه كان شارباً للخمر، واليه تعود فكرة منح مئة غرام من الكحول لجنود الجيش السوفياتي. وبحسب قول المحاربين القدامى، تمكن العديد بفضل كمية الفودكا هذه من البقاء على قيد الحياة. وقد وصل إنتاج «المشروب الوطني» في عهد ستالين إلى عشرة ملايين ليتر في السنة.
(عن «صوت روسيا»)
إضافة تعليق جديد