حياة مجهولة لخليل حاوي
بالتأكيد، هناك الكثير بعد ليكتب حول شعراء الحداثة الرواد، الذين انخرطوا منذ الخمسينيات في مغامرتهم الأدبية الكبرى. ليس فقط لأن الحداثة (الأدبية على الأقل) مشروع مستمر، بل لأن الكثير من "الأسرار" (الصغيرة والكبيرة على حدّ سواء) لم تظهر بعد، أي ثمة تاريخ شخصي، لا يزال مخفيا، وهو يظهر أحيانا عن طريق الصدفة، وهو ما سيتيح أمامنا قراءة أخرى، حين تُفتح علبة الأسرار بأكملها.
هذه الصدفة نجدها حاضرة في قلب الكتاب الصادر حديثا عن "دار نلسن" بعنوان "رسائل خليل حاوي إلى نازلي حماده"، التي كانت تلميذته في الجامعة الأميركية في بيروت قبل 55 سنة. يومها، غادر حاوي لبنان لإكمال دراسته في كمبردج، وبقي على اتصال (عن طريق الكتابة) ببعض تلاميذه، ومنهم نازلي حماده التي تكشف عن 8 رسائل كان الشاعر أرسلها لها من بريطانيا، كما البعض القليل من البطاقات البريدية، وهي في إقدامها على هذا العمل، تكشف لنا بعض التفاصيل الصغيرة في حياة خليل حاوي.
تأتي هذه التفاصيل لتضيء بدون شك، سيرة الرجل، الشعرية والشخصية، إذ إن رسائله تتأرجح في الكلام على خطين: فيها أحيانا ما يقودنا إلى معرفة وضعه النفسي من شعور بالملل والحنين والشوق إلى لبنان الخ... ومنها ما يتعلق بسعيه الثقافي كأن يحب فن الباليه ويتابعه، أو أن يقصد المسرح، الخ.. وبين الأمرين، لا بدّ من أن نجد الشاعر المسكون بهواجس القصيدة والكتابة. بمعنى آخر، لم يكن حاوي يستطيع وهو يتحدث عن عاديات الإنسان، أن ينسى كونه شاعرا، تسكنه هواجس الكتابة إلى أقصى الحدود.
ومع الشاعر الذي يسكنه، نكتشف عددا من الوجوه الأخرى، كأن يقول رأيه بصراحة في عدد من الأفكار كالحب والحرية والأدب والصداقة، مع التزامه المطلق بتلك الرؤيا التي كانت تسيّره: ربما لأن خليل حاوي لم يتخل مطلقا عن فكرة أن الشاعر هو طليعة الأمة، وبأنه "نبي" ما، سيقود الشعب والأجيال القادمة إلى العالم الجديد، وهذا ما نراه بوضوح في قصيدته "الجسر"، التي يرد عنوانها، مثلما ترد مقاطع منها طيلة هذه الرسائل.
قراءة الرسائل تقودنا بدون شك، إلى حياة أخرى، مجهولة بالنسبة إلينا، من حيوات خليل حاوي، إذ لا بدّ لنا نحن القراء من أن ننقاد وراء هذه التفاصيل، التي علينا أن نصدقها، بمعنى أنها تنبع عن لحظة من لحظات "التجلي" عند الشاعر، وأقصد بذلك، أنها نابعة من لحظات إنسانية بحتة، تشبه أي كائن بشري على هذه الأرض. من هنا نسامح الشاعر حين يخطئ في قصيدة رشيد أيوب (ص 61 من الكتاب) إذ ينقل عنه "يا ثلج قد هيجت أحزاني" بينما في نص القصيدة الأصلي "يا ثلج قد هيجت أشجاني".
في أي حال، جميل ما تقوم به نازلي حماده من نشر هذه الرسائل، إذ تفتح لنا طريقا آخر لنتعرف من خلاله على خليل حاوي.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد