غسان الرفاعي: ((التمغرب)) والانشطار
-1-الطبيب الذي يعالجني في مستشفى بومبيدو يساري تقدمي، ومولع بالحوارات السياسية، وقد ابتهج حينما علم بأنني أعمل في الصحافة، وأكتب بانتظام،.
-1-الطبيب الذي يعالجني في مستشفى بومبيدو يساري تقدمي، ومولع بالحوارات السياسية، وقد ابتهج حينما علم بأنني أعمل في الصحافة، وأكتب بانتظام،.
كان أكثر من 130 ألف مواطن سوري يسكنون عشرات القرى في الجولان عشية احتلاله عام 1967. في أعقاب الحرب، لم يتجاوز عدد من بقي فيه 6 آلاف نسمة، توزّعوا على 4 قرى هي مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية. الفرار من الحرب لم يكن السبب الأساسي لحصول ذلك، بل سياسة ترحيل مارسها الاحتلال
حينما اقترحتُ على هيئة تحرير "البعث" إحداث زاوية "حديث الخميس" كنت أضع في حسباني أن أتناول في كل أسبوع موضوعاً ثقافياً أو أدبياً أعتقد- من وجهة نظري الشخصية- أنه موضوع مهم، مشترطاً على نفسي أن أصوغ الأفكار المتعلقة به بصدق ونزاهة، وأن أعرضه بطريقة (الحديث) البسيط الذي يفهمه المسافر الراكب في البولمان إذا قرأه وهو بين النائم والصاحي،.. وأنا واثق من أن هذا الراكب، بغض النظر عن مستواه الثقافي، سيرمي الجريدة جانباً إذا شم من الحديث رائحة فذلكة، أو تذاكي، أو تعالم.
من هنا أجد نفسي مضطراً لأن أوضح لبعض الأصدقاء أن الموضوع الذي كتبتُه تحت عنوان "تكريم حسن صقر" لم يكن ينتمي إلى النقد، فأنا، من جهة، لست بناقد، وثانياً، النقد له أماكـن أخرى غير مكان (حديث الخميس)، وثالثاً، كان قصدي مما كتبتُ أن أوجه تحية لكاتب كبير أمضى عمره وهو يعيش في الظل، ورابعاً، أن ألفت نظر الجهات الثقافية المسؤولة إلى ضرورة تكريم حسن صقر، وغيره من المبدعين السوريين الكبار.
ولئن كنا، الصديق الناقد وفيق خنسة وأنا، متفقين حول أهمية الإنتاج القصصي للأستاذ حسن صقر بمجمله، إلا أن وفيق يصرُّ على أن قصة "جنازة من ورق" المنشورة في مجموعته (الموت في المدينة- 1985) هي قمة عالية بين قصصه.
هذا الرأي، في الواقع، دفعني إلى قراءة القصة للمرة الثانية، ليس من أجل الاستمتاع بأسلوب القص الفني الساحر الذي يمتلكه الأستاذ حسن صقر وحسب، بل لأبحث عن النقاط الإيجابية التي تجعل وفيق خنسة يصر على أنها قمة في الإبداع.
إنها قصة تدور حول فكرة (الحياة والموت)، فهي، من حيث المبدأ، قصة ذات طابع وجودي، وموضوعها يضارع، من حيث الأهمية، هذه الفكرةَ الأزلية.
أضف إلى ذلك أن موت بطل القصة، الموظف الحكومي يونس الضلع، ليس موتاً عادياً كالذي يحصل فجأة، بالجلطة، أو بالتهاب الكبد الفيروسي، أو بحادث سيارة، أو بالإعدام، أو بالاغتيال. بل إنه قضية- كما يقول الكاتب في مقدمة القصة- لا سابقة لها ولا مثيل.
الكاتب يعرض وقائع هذا الموت بأسلوبه الذي يتميز بوضوح الأفكار، وبمقدرة استثنائية على ترتيبها وفق تسلسل منطقي معين. وبعد قليل (تنحبك) القصة، ويصبح من الصعب على أي كان أن (يفكفك خيوطها).
البند الأكثر إثارة وغرابة في هذه المسألة هو أن يونس الضلع، نفسه، كان مهتماً بقضية موته المأساوية، وما يتعلق منها بتحديد مكانته لدى الآخرين. (كان يضع في خياله صورة متحركة للجنازة في مسيرتها الحزينة).. و(كان يضع أرقاماً تقديرية للمشيعين، ويعد على أصابع يده جملة الباكين الذين كان يرتبهم مرة بهذا الشكل، ثم يعيد ترتيبهم بشكل آخر)!
هذه المقاطع الممعنة في السخرية لا يمكن لها، بل لا يراد لها أن تُخرج القصة عن مسارها التراجيدي المحكم، وتستمر هذه المداولات حتى يبرز لنا الجانب (الألمعي) في القصة الذي يعطيها ذلك القدر الكبير من الأهمية، وهو أن يونس الضلع قد بدأ بالتلاشي، (دون سابق إنذار). فلقد (تعرض تدريجياً لحالة من الاضمحلال أصابت أجزاء جسمه جميعاً، بشكل متساو، مما كون خداعاً عجيباً أطال في أمد اكتشاف الحالة!).
إن الكاتب الذي يمتلك اللمعة الإبداعية الكبيرة، ويتمتع بعناصر الأهمية و(المعلمية) غير المنقوصة، مثل الأستاذ حسن صقر، لا يمكن أن يمر بهذه الفكرة النادرة (اللقية)، مروراً عابراً، بل إنه لا بد أن ينطلق منها إلى رصد وقائع وأحداث استثنائية (تناسب استثنائية الحدث)..
فحاكم مصرف المدينة الذي كان يونس يشتغل عنده، أوقعته الحادثة تحت كابوس من الخوف.. واستنفرت لمعالجة القضية كافةُ رموز السلطة والمجتمع.. والمجلس الأعلى لأمن المدينة عقد اجتماعاً طارئاً وأخفي يونس، وأذيع بين الناس أنه أرسل في بعثة ترفيهية.. وساد القلق لدى الشعب، وأخذ اسم يونس الضلع يظهر مكتوباً على قصاصات ورقية، من دون تعليق.
ثم أطلق سراحه فأصيب الناس لرؤيته بالهلع، وأصيبت المدينة بحالة من الشلل و(دب الجمود في أوصال الحالة الاقتصادية)!! و(قامت مظاهرات، ونهبت متاجر، وتحطمت واجهات ثمينة، وانتشر الزجاج المكسور في الشوارع، وتكدست النفايات، وانخفض عدد الذين يسيرون في المنتزهات، واستخدمت أسلحة، وسالت دماء).
ويبلغ التصعيد الفني في القصة أوجه في عملية الدفن.. والاحترازات الأمنية التي اتخذت شكل الأطواق الحديدية لم تستطع الصمود أمام فضول الناس المتجمهرين حول الجنازة يريدون أن يعرفوا ما بداخل التابوت. وبالطبع فإن مصادمات عديدة تحصل، ويذهب نتيجتها كثير من الضحايا، إلى أن يتم الاختراق، ويتضح أن التابوت لم يكن يحوي جثمان يونس الضلع الذي تلاشى، بل كان محشواً بالأوراق. (لقد تم جمع كل ما كتب وكل ما نشر عن قضية يونس الضلع، وُضِعَتْ مرتبةً فوق بعضها).. بقصد أن تنتهي هذه القضية إلى الأبد.
أجل، كان الصديق الأديب والناقد "وفيق خنسة" على حق، فهذه قصة من العيار الفني الثقيل، يمكن للمرء أن يعثر على مثيلاتها عند كتاب من طراز غابريال غارسيا ماركيز، ويوسف إدريس، وحسيب كيالي.. وفي القريب سأحدثكم عن قصة للراحل أديب النحوي من هذا المستوى.
(ملاحظة هامة: ثمة معادلة صحيحة جداً.. مفادُها أن الجهة الثقافية التي تكرم مبدعاً كحسن صقر إنما تكرم نفسها بالدرجة الأولى، والعكس صحيح).
خطيب بدلة
المصدر: البعث