«افوريسمات» المنتقى من كتابات كافكا: نصوص اليأس

21-02-2012

«افوريسمات» المنتقى من كتابات كافكا: نصوص اليأس

عن منشورات «جوزف ك. وغاليمار»، في العاصمة الفرنسية صدرت مؤخرا ترجمة فرنسية لكتاب أفوريسمات» للكاتب التشيكي فرانز كافكا، وهو في الأصل ليس كتابا مستقلا بذاته، بل حاول الناشر الفرنسي أن يجمع بين ضفتيه تلك المقاطع المتناثرة التي وجدت بين أوراق كافكا بعد رحيله، ليشكل منها سياقا واحدا.
هنا كلمة معدة بتصرف عن مجلة «باروسيون» التي تناولت الكتاب.
«إن كان حكم الأجيال المقبلة على فرد ما أدق من حكم معاصريه عليه، فإن ذلك يعود إلى شخصية المتوفى. إننا لا نظهر، كما نحن عليه، في العمق، إلا بعد الموت، أي حين نكون وحدنا. يشبه موت الفرد، تماما، مساء السبت بالنسبة إلى عامل تنظيف المداخن: إنه يهز السخام الذي يغطي جسده. عند ذاك نرى، إن كان معاصروه قد أضروا به أكثر مما اضرّ هو بهم. في الحالة الثانية، لا بدّ من أن يكون شخصا عظيما». (فرانز كافكا).
لا يبدو نص الكاتب التشيكي الراحل فرانز كافكا، هذا، على كثير شهرة، ضمن سياق النصوص المتعددة التي خلفها بعد رحيله، والتي كشف عنها بحق أو بغير وجه حق (إذ لا يزال الجدل قائما لغاية اليوم) صديقه المقرّب ماكس برود، الذي أوصاه بإحراق جميع مخطوطاته، بُعيد موته. قصة معروفة، في تاريخ سيرة هذا الكاتب المتفرد، من هنا، قد لا يكون من الضرورة العودة إليها، بل من الأفضل أن نعود إلى أصل هذا النص. في واقع الأمر، نجد هذه «الأفوريسمات» (أو التوقيعات، إذا أردتم) في الكتاب الذي أصدره برود العام 1953 بعنوان «تحضيرات عرس في القرية» والذي حمل ايضا عنوانا فرعيا هو «اعتبارات حول الخطيئة، العذاب، الأمل، الصراط المستقيم». بيد أن الناشرين «جوزف ك«. و«غاليمار» يقترحان علينا مؤخرا، في الكتاب الصادر حديثا، أن يقدما «صيغة نهائية» لهذا الكتاب، بشكل مستقل عن جميع الأعمال الأخرى، لكافكا، التي صدرت بعد رحيله. من هنا، لا بدّ أن يثير هذا الكتاب جملة من الملاحظات.
يأتي كتاب «أفوريسمات» اليوم، ليشكل كتابا مستقلا بذاته، أي نوعا من «ديوان هجين»، لا يتكون في صيغة نهائية، إلا من خلال عمل الناشر، حيث شكلّه وأعاد تشكيله انطلاقا من الملاحظات والمقاطع المكتوبة على أوراق إضافية، كما انطلاقا من الملفات غير المنتهية وحتى من الصيغ المتعددة التي كتبها كافكا على هوامش نصوصه الأخرى أو رواياته. وبما أن مؤلف ذلك كله، ليس سوى كافكا ، ينهمك الجميع، وبعجل، بإعادة طبع ما يعتبرونه «لقيا» أدبية، في حين نجد أحيانا، أو نشعر بأن ما أعيد طبعه، ليس سوى «مسودة» عمل ما، أي أننا أمام نص، لم يكن مهيأ أصلا للنشر. لذلك، لا بدّ أن يعود السؤال ليطرح نفسه: ألم يكن من الأفضل احترام رغبة الكاتب الأصلية، بعدم «رؤية» نصوصه مطبوعة بعد وفاته من جهة، ومن جهة أخرى في أن لا يتعرض لما يتعرض له من تجزيء، لهذه النصوص، التي «ظللها» بنفسه على هوامش كتبه المخطوطة؟ وإن كان ثمة جواب، يمكننا أن نسوقه، حول نشر أعمال كافكا بعد وفاته، لا بدّ لنا من أن نجد ذلك الجواب القاطع كما صاغه ميلان كونديرا، في كتابه الجميل «الوصايا المخانة» (1993) حين قطع جملة وتفصيلا مع كافكا ليقف مع وصيته.

العنف
في العودة إلى النصوص التي يتشكل منها هذا الكتاب، لا بدّ من أن نشعر بانقباض ما أمام العنف في هذه المقاطع، أمام هذا اليأس الكامن وراء كل كلمة، و«المسور» بتحليل رهيب حول «الكائن». بالتأكيد، لا بدّ من أن نعرف أن هذه النصوص كتبها كافكا في نهاية حياته، لكن «الغريب» أنها كُتبت وهو لا يزال بعد في الأربعين من عمره. ومع ذلك، كان رجلا يعيش الحزن على نفسه، أو يعيش هذا المأتم الذي نجده في هذه العبارات: كان مصابا بالسلّ وقد أقام بين عامي 1917 1918 (تاريخ محتمل لكتابة هذه النصوص) في «زورو» عند شقيقته، التي تقع اليوم في جمهورية تشيخيا. في ذلك الريف الرعوي، الدافع إلى التأمل، نجد الكاتب وهو يشعر باقتراب النهاية، لذلك يعود إلى تأمل بعض «الأمور الأساسية»: طفولته، الحشود غير الصبورة، الأمل بعالم سماوي، المواقف التي اتخذها خلال حياته، الحنين لعالم مفقود، الطريق الذي لا يزال أمامه وعليه أن يتخذه، وفي نهاية الأمر، قبول الحياة المتبقية بكلّ تفاصيلها وانزياحاتها.
يتألف الكتاب بشكل أساسي من «أفوريسمات» وأمثلة أخلاقية وحكايات «مشعرنة» (أو لنقل من قصائد نثر وفق المثال الذي أرساه بودلير) و«ترقيمات» رمزية و«حِكم فظة ومفاجئة»، وحتى من أقاصيص صغيرة مليئة بالاستعارات. هناك أيضا نوع من مذكرات يحاول فيها كافكا أن يقوم بجردة حساب «ميتافيزيقية» لحــياته الماضية. ثمة يأس يغلفنا بالكامل، وفق إرادة الكــاتب، وعـلى ذلك الكائن الفرد أن يتحمل ذلك كله. صحيح أن ثمة صورة لهذا الفرد المسحوق من قبل الحياة، لكن ما ينحو إليه الكاتب هو هذه العقيدة لمفكر قاس ومصاب بالهلوسة، في الوقت عينه، مثلما تشهد على ذلك، العديد من مقاطع هذا الكتاب.
في أي حال، تقع هذه «الأفوريسمات» في قلب فكر كافكا «السوداوي»، لتشكل عملا يتألف من مقاطع تسبر أغوار الكاتب اليائس، وما على القارئ إلا ان يذهب في هذه الرحلة المعاد تلميعها من قبل الناشر. لذلك لا بدّ أن نتذكر كونديرا وما كتبه في وصاياه.

إسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...