«الحيوان المحتضر» للأميركي فيليب روث..المحكمة العليا للقدر الإنساني
في الحقيقة، لم أنشغل تماماً بالسؤال حول ما إذا كان الكاتب الأميركي فيليب روث في جديده «الحيوان المحتضر» عن «الهيئة المصرية العـامة للكتاب» هو نفسه دافيد كيبيش، بطل الرواية ولــسانها، الذي يعبر عقده السابع، مهموماً في سؤاله الوجودي حول الحياة والموت والجنس والأسرة والزواج. لم أنشغل بمطابقات من هذا النوع، وتركت لمتعــة القراءة ان تغرف نصيبها الوافر من «الحيوان المحتضر» ذي الخصوصية الآسرة في إضاءتهــا على موضـوعة ضعف الإنسان بشكل عام، ومكانته الهشة في عالم تتزايد فيه المشاعر العدوانية، ويحيطه العنف من جميع الجهات.
فيليب روث في التعريف، أحد أهم الكتّاب الأميركيين المحتفى بهم في حياتهم، وُلد عام 1933 في نيويورك/ نيوجيرسي، ومن أهم أعماله: «المؤامرة على أميركا»، «الوصمة البشرية»، «كل رجل»، «عملية شيلوك» ثم موضوع مقاربتنا: «الحيوان المحتضر» في ترجمة سلسلة وتقديم وافٍ من مصطفى محمود. روث الذي يتردد اسمه دائماً قبيل الإعلان عن جائزة نوبل في الآداب، كان حاز على جائزة بن نابوكوف (ابن الكاتب الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف صاحب عمل «لوليتا») ليس على عمل بعينه، وإنما تتويجاً لمسيرته الأدبية بشكل عام، وحصل عليها في دورات سابقة على سبيل المثال ماريو فارجاس يوسا.
بالكثير من السخرية غير المبطنة، يخوض روث في «الحيوان المحتضر» في موضوعة الدين التي تُعتبر خطرة بالنسبة لكتاب آخـرين. في الحقيقة يهتم روث في كيفية تحويل الحياة نفــسها إلى فن: «لا بـد أن يكون لدي شيء أفعله يرتبــط بي، بدونه ســوف تكون الحياة جحيماً. لا أستطـيع أن أكون عاطلاً، ولا أعرف شيئاً أفعله غير الكتابة. لا أهــتم إذا كـان المرض لا يمنعني من الكتابة، لكنني أفقد عقلي إذا أعاقني عنها».
خلف المشاكل التي يعانيها بطل روث في الرواية دافييد كيبيش نرى حيلة الكاتب في اهتمامه من خلال السرد، وإن مواربة، بنظريات الجمال والتجريب. يقوم بذلك بحرفية وبفهم في تطبيق الوسائل التي يستخدمها، والتقنيات التي يحتاج إليها لإظهار وجهة نظره الفنية. سيرة ذاتية من خلال تطابق حياة الكاتب وبطله؟ قد تكون، لكنها لن تقدم إضافة إلى السرد ومتعة الخوض فيه، حتى أن فيليب روث نفسه يؤكد أنه يكتب سيرة ذاتية مزيفة ولو تطابقت حياته الشخصية مع رواياته، لجهة إحساسه تجاه أمه، أو زيجتيه الفاشلتين.
سيرة ذاتية للكاتب، أو مجرد سيرة مزيفة، لا بد لنا أن نقرأ في «الحيوان المحتضر» الحوادث وفهمها كاحتمالات أو إمكانات. وهذا واضح عند روث، عالمه يشبه أي عالم معروف، سوى أنه يميل إلى التطرف في عالمه الواقعي، إذ ترسم الأحداث بغموض خلف عالمنا الحقيقي، لأنها تمسك بإمكانية واحدة للحياة (إمكانية لبطل الرواية ولعالمه) مما يجعلنا كقراء، نرى ما نحن عليه، وما يُحاك لنا، وما نستطيعه.
الحكم الروائي
الجنس عامل مُكمّل لبنية السرد، وحياة طلابية، مزاجية في مقاربات روث الواقعية، والخيالية في آن، التي تسعى في حياة أبطاله وفي الاختفاء التدريجي للقيم المعروفة. روث في سرده مقتنع بصحة حكمه الروائي، بمعنى انه مقتنع بإمكانية ان العالم الذي لا يعدو أن يكون احتمالاً، قد يحدث فعلاً. ذلك ان عملية أخرى، أو حياة أخرى إن صح التعبير، تجري موازية لعملية التفسخ التي تطال حياة مجموعة من الشبان والشابات، في جامعاتهم وأماكن لهوهم وعملهم وغرامياتهم، كتطور إيجابي لم يستطع الكاتب أن يحـسم في روايته فيما إذا شكل هذا اختلافاً في نظرته الساخرة في «الحيوان المحتضر».
في تركيز روث على عملية تفسّخ القيم القائمة بالفعل في العالم الإنساني، هناك تلميحاته مع ذلك، وإيماءاته ومواقفه في ثنايا الرواية، إلى اكتشافه قيماً جديدة مجهولة لأبطاله، أرضاً جديدة لحياتهم، وإمكانية حياة ربما، وعملية جعلها واقعية هو الأمر الثانوي بالنسبة له.
مواقف لأبطال الرواية، تقترب صورة حياتهم من الحياة نفسها: (علاقات عاطفية صحيحة وعلاقات منحرفة غير صحية) مع يأس الرواية نفسها أو الراوي، من أن هناك قوة قادرة على تغيير مصائرهم التي هي في الحقيقة، شخصياتهم التي تستقر كما يبدو في المحكمة العليا للقدر الإنساني. توافق التشابه بين حياة الراوي وحياة أبطال روايته، نلمح له ظلالاً من ذنب ذلك التشابه، وهو الصليب الذي يحمله الكاتب على مسؤوليته.
فيليب روث في «الحيوان المحتـضر» لا يحمّل عمله أفكاراً كبيرة، ولا حتى مناقشات هــذه الأفـكار، فهو يائس على ما يبدو ومن هذا العصر المغلّف بالأفكار، واللامبالي بالتفاصيل التي هي وحدها الحياة الحقيقية.
عناية جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد