«الخربة»: كوميديا دسمة بعيدة عن التهريج
يشكل مسلسل «الخربة» علامة فارقة في خارطة البرامج الرمضانية، بعدما نجح في المزج بين إبداع مخرجه ومواهب ممثليه وفرادة نصه، ومحاكاة الواقع ورسائله المشفرة.
فالعمل الذي أعاد الفنان دريد لحام الى الشاشة، بعد فترة انقطاع، لم يكن يُتوقع منه أن يحقق له مثل هذه العودة المتميزة الى ساحة الكوميديا، خصوصاً أن شخصية «غوار» لا تزال تحاصر لحام، وتشكل حاجزاً بينه وبين المشاهد العربي، الذي ما زال يفضلها على الكثير من الأدوار التي لعبها.
وكما فرض لحام نفسه بقوة في شخصية «أبو نمر»، كذلك، فعل الفنان رشيد عساف في شخصية «أبو نايف»، لا بل إن رصيد الأول الهام في عالم الكوميديا لم ينل من حضور عساف، الذي أدى دوره باحترافية عالية، وخفة ظل كشفت عن قدرات فنية جديدة لديه. فكان كل من الفنانيْن نداً للآخر، ليس فقط في الدور، وإنما أيضاً في الأداء.
والعمل الذي كتبه الدكتور ممدوح حمادة وأخرجه الليث حجو، بُني على تلك الكيمياء الفنية السارية بين الرجلين، بعد «الضيعة ضايعة»، الذي كان يُخشى أن يخرج «الخربة» مشابهاً له، فإذا بالعمل الجديد يتقاطع معه، ولكن من دون أن يفقد خصوصيته في أكثر من جانب.
وثنائية «أبو نمر» و«أبو نايف» اللذين يخضعان أبناء عائلتيهما لرغباتهما، ترمز الى ذلك المجتمع الذي يتحكم تاريخه بحاضره. فينبري كل منهما في إلغاء الآخر وعرض عضلاته أمامه، رافضاً البوح بالضعف أو الانكسار، كيلا يجلب له شماتة إحدى العائلتين المتصارعتين: «قعقور»، و«بومالحة».
وبقدر ما تعكس هذه الثنائية صراعاً على النفوذ والسلطة في القرية، فإنها تظهر في المقابل ترفعهما عن الحساسيات العائلية، كلما شعرا بخطر يهدد مصالحهما ومكاسبهما، واتحادهما في مواجهة الخطر الخارجي.
ويعكس العمل الجدل بين جيلين: القديم الذي يجد صعوبة في استخدام الخلوي، ويقاطع التكنولوجيا ويعتبرها جسماً دخيلاً، وبين الجيل الشاب الذي يتسلح بأدوات العصر، ومنهم غطاس والدكتور عاطف، اللذين سافرا وعادا بأفكار جديدة الى القرية. كما يعكس براءة أبناء جيل ثالث من خلال إصرار المثقفين في البلدة النائية على أن يكونوا رأس حربة في مواجهة الرأسمالية والاستعمار والإمبريالية! وتمسك آخرين بمفاهيم وقناعات مثل العروبة، حيث يحلف أحدهم بعروبته لإثبات مصداقيته، في حين أن الأنظمة العربية تبيع وتشتري بالعروبة كل يوم.
وقرية «الخربة»، التي تعكس بيئة الجنوب السوري، والتي أثارت حفيظة البعض عبر المواقع الالكترونية لتصويرها بيئة فطرية، فهي وإن استعارت اللجهة الجنوبية والمكان، الا أنها قائمة على بيئة افتراضية فرضتها رؤية درامية معينة للكاتب. وبالتالي، فالمسلسل ليس توثيقياً أو واقعياً، بل هو عمل كوميدي يجدر الحكم عليه من منظار فني بحت.
وبهذا المعنى نجح حمادة في تقديم النكتة الذكية التي تحمل أبعاداً، في عمل اجتماعي - سياسي بامتياز، غامزاً من الواقع السوري حيناً، (عندما ضربت الأجهزة الأمنية أبو نمر على سبيل المثال)، والواقع العربي غالباً، متمكناً من مجاراة الأحداث الأخيرة المتعلقة بالثورات الشعبية، حيث أنجزت كتابة الحلقات الأخيرة بالتزامن مع التصوير.
أما المخرج حجو فقدم كل ما سبق بقالب لا يحمل إلا توقيعه، فنجح في اختيار أماكن التصوير، والأزياء، وفي إبتكار هيئات الممثلين، وتمييز كل منهم بخاصية في الشكل، الى جانب عبارة خاصة أو لازمة يكررها. ويبدو حجو بالإجمال ضليعاً في ابتكار شخصيات جديدة لأعماله الكوميدية، وهو الذي اختار ممثلين بعيدين عن الكوميديا، فأجادوا بإدارته أدوارهم، مثل الفنانين ضحى دبس ومحمد حداقي وأحمد الأحمد.
كل هذه العناصر، شكلت عملاً كوميدياً متقناً، بعيداً عن التهريج وعن الحركات الاستعراضية الفارغة. إنها كوميديا الموقف التي برع فيها، باسم ياخور بأقواسه وعلامات التعجب التي يطلقها يمنة ويسرة، وجمال العلي، ومحمد خير الجراح وشكران مرتجى وأدهم مرشد. فيما حضر الفنان نضال سيجري الذي خضع مؤخراً لعملية استئصال لحنجرته، كضيف ظريف على العمل مقدماً شخصية نعمان الرجل الأبكم الذي عاد من المهجر الى القرية بأهداف معينة.
كل شيء كان متآلفاً في العمل، بما في ذلك الموسيقى التصويرية لطاهر مامللي، وأغنية المقدمة بصوت ايهاب ابن الفنان الراحل نور الملاح.. ويبقى القول إن «الخربة» يكسر روتين الأعمال الكوميدية، ويشيع جواً من الألفة.. والمرح في أمسياتنا الرمضانية.
فاتن قبيسي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد