«الشهيد» لـ«أوفلاهرتي»: العقل قبل شجاعة الشجعان
رواية أم تاريخ حقيقي؟ منشور سياسي أم مجرد رغبة في التعبير عن موقف؟ دعوة إلى القتال المتواصل أم نداء من أجل حل الخلافات بأكثر الطرق سلمية على اعتبار أن الحروب عادة قاصرة عن حل أي معضلة حقيقية؟ ربما كل هذا في الوقت نفسه وربما لا شيء من هذا على الإطلاق. ومع ذلك لا يمكن أن يقال أبداً عن رواية «الشهيد» للكاتب الإرلندي ليام أوفلاهرتي، إنها نص مجاني يحاول فيه كاتبه تبرير أحداث معينة وموقفه منها. فهذه الرواية التي نشرت للمرة الأولى في عام 1933، نالت شهرة كبيرة لدى الإرلنديين، ثواراً كانوا أم ساعين للبقاء تحت سلطة الإنكليز، علماً بأن كل فريق من الفريقين حاول أن يفسرها تبعاً لمصالحه وأيديولوجيته ساعياً الى الاستفادة من شهرتها دعماً لمواقفه. والحقيقة أن هذه الرواية نالت في زمنها شهرة كبيرة وشعبية تفوق ما نالته أي رواية أخرى تتحدث عن نضال الشعب الإرلندي من أجل حصوله على الاستقلال. وربما يكون قد ساهم في شهرة «الشهيد» كونها تروي أحداثاً كانت لا تزال طازجة... هي تلك الأحداث المهمة والكبرى التي عرفها الوطن الإرلندي قبل صدور الرواية بأقل من عشرة أعوام، وسيكون لها تأثير كبير في التاريخ الوطني الإرلندي طوال ما تبقى من القرن العشرين. فإذا أضفنا إلى هذا ذلك المزج الذي أبدعه الكاتب بين الأحداث الوطنية الكبرى وبين حياة الأفراد، يمكننا أن نفهم كون كثر اعتبروا «الشهيد» رواية النضال الإرلندي.
> مهما يكن من أمر، يبدو واضحاً أن «الشهيد» تتخذ في سماتها العامة صورة التاريخ المروي، أكثر مما تتخذ صورة الرواية التاريخية، لا سيما بالنسبة إلى قراء راح كل منهم يعثر فيها على مرآته الخاصة، بحيث بدا الشعب الإرلندي ممزقاً، في فصول الرواية، من خلال شخصياتها وأحداثها، من خلال الانقسامات الحادة التي عرفها العمل النضالي الإرلندي، بين أنصار هذا التوجه أو ذاك، ما سهّل، يومها، انتصار الإنكليز وتضعضع الحركة النضالية، وهو - كما نعرف - الأمر الذي يحدث دائماً حين تستفيد القوى العدوانية من انقسام القوى المناضلة، وغالباً من منطلق مصالح فئوية أكثر مما يكون الأمر من منطلق وجهات نظر متجابهة.
> إذاً، تدور أحداث «الشهيد» زمن التمزق الإرلندي الداخلي خلال حقبة تمتد من ربيع عام 1922، إلى بداية خريف العام التالي 1923. ونعرف - تاريخياً - أن ذلك التمزق نتج عن توقيع المعاهدة المسماة «معاهدة داوننغ ستريت» والتي كانت وقّعت آخر عام 1921. والتي أدت إلى تحويل ست وعشرين مقاطعة إرلندية قومية تابعة للوطنيين الإرلنديين، إلى «دولة إرلندية حرة»، إنما ضمن نطاق الهيمنة السياسية البريطانية، تاركة المقاطعات الست التي تتألف منها منطقة آلستر على حدة، في تبعية مباشرة للإنكليز. بالنسبة إلى كثر من الإرلنديين كانت تلك المعاهدة تعتبر نجاحاً لهم، غير أن الجمهوريين المتعنتين بقيادة دي فاليرا، رفضوا الأمر جملة وتفصيلاً، وهم يعتبرونه خيانة لهم وتنازلاً عن حقوقهم ما دفع القوات النظامية الى مطاردتهم طوال سنة بأكملها ومحاصرتهم، حتى يئس دي فاليرا أخيراً من قدرته على مواصلة «الصمود والتصدي» فأمر رجاله بأن يلقوا السلاح. صحيح أن كثراً منهم فعلوا، غير أن ذلك لم يمنع الاغتيالات وقتل الفلاحين وزرع القنابل في أمكنة عدة، من أن تتواصل موقعة ضحايا راح الشعب كله يشعر بأن هلاكها كان مجانياً ولا طائل من ورائه. وعلى هذا النحو بدت الأمور شديدة الاضطراب في أيلول (سبتمبر) من عام 1922 حين تراجعت قوات الجمهوريين وحوصرت تماماً في ساليتاون أمام القوات النظامية الحكومية التابعة لدولة إرلندا الحرة المتهادنة مع الإنكليز. وكان على رأس الجمهوريين في تلك المنطقة القائد المثالي برايان كروسبي، الذي عرف بنزعته الصوفية والسلمية والذي كان يرفض رفضاً قاطعاً أساليب اللجوء إلى القتل والعنف والتخريب كوسيلة لتحقيق غايات سياسية. في وسط الوضع هذا في ذلك الحين، كان من غير الممكن أن يتمكن كروسبي من مواصلة الإمساك بالسلطة. فالزمن زمن الغوغائيين أصحاب الخطابات النارية الرنانة، والذين يريدون التمسك بالسلاح ومواصلة القتال، مهما كانت النتائج، طالما تكشفوا عن أن السلاح هو بالنسبة إليهم غاية في حد ذاته، لا وسيلة لمواصلة النضال السياسي. وهكذا، إذا أفلتت السلطة من المثالي العاطفي كروسبي، التقطها بسرعة، معاونه وخصمه في آن النقيب تراسي، الذي عرف بدمويته ونزوعه إلى ممارسة الإرهاب وعشقه للقتل وحمل السلاح مغطياً ذلك بالادعاء أن لديه «رسالة إلهية، لا يفقه كروسبي شيئاً منها».
> في تلك الأثناء، وفيما كان تراسي ينتزع السلطة من كروسبي، مؤلباً عليه الجموع التي شلّ خطاب تراسي، الديماغوجي على عادة كل الخطب المماثلة في كل زمان ومكان، تفكيرَها وحولها إلى شبه دمى تأتمر بمن يعلو صوته أكثر ويداعب غرائزها أكثر، كانت القوات النظامية المعادية للاثنين معاً تقترب أكثر وأكثر، بل صار يمكن رصد طلائعها بالعين المجردة. وكانت الهزيمة ماثلة أمام الأعين محتمة، ومع هذا ظل تراسي يكابر ويخطب ويؤلب بديماغوجية ما بعدها ديماغوجية، فيما راح كروسبي، الذي كان يأمل بأن يسود العقل والمنطق، يدعو إلى المقاومة السلمية السلبية، مقابل إصرار تراسي على مواصلة المعركة «حتى آخر إرلندي» لو لزم الأمر. وفي النهاية، تسقط المدينة في أيدي القوات النظامية. وفي خضم ذلك تتوالى الخيانات والكمائن وأعمال التخريب والإرهاب الفردية، لتقابلها عمليات إعدام بالجملة وزرع الخوف في نفوس السكان ما يحبطهم تماماً ويجعلهم تائهين لا يعرفون ماذا يريدون وإلى من يتبعون. غير أن كروسبي يبقى وحده في مقره متمسكاً بسلطته، ليس طمعاً في مكسب شخصي، وإنما محاولة منه في إعادة العقل، وفي الوقت نفسه، إلى الجماهير التي تتبع غريزتها على رغم الهزيمة معتبرة نفسها منتصرة، وإلى القوات النظامية التي تحولت إلى جلادين يمارسون أبشع أنواع العنف ضد الجميع. ولئن كان كروسبي قد تبدّى طوال الوقت غير راغب في القتال، وربما غير قادر عليه (غير راغب فيه لأنه غير قادر عليه على أي حال، انطلاقاً من إدراك عميق لتوازن القوى)، فإنه الآن يبدو أمامنا غير متردد إزاء دفع الثمن. ذلك أن القائد تايزون، قائد القوات النظامية المنتصرة، قرر أن يصلب كروسبي جاعلاً إياه يدفع ثمن هزيمة الجمهوريين. إذ ثمة من يجب أن يدفع الثمن الآن بغية تهدئة الأمر. وتايزون قرر أن كروسبي المثالي المسالم هو الذي يجب أن يدفع، لا تراسي (الحربجي)، الذي سيلعب لاحقاً دور تهدئة من المؤكد أن كروسبي بوداعته ما كان في إمكانه أن يلعبه. وهكذا يربط كروسبي إلى صليب ويساق إلى أعلى مغارة تطل على البحيرة، حيث يرمى من هناك.
> من هنا، من هذه النهاية، يتبين لنا في ختام هذه الرواية أن الشهيد الحقيقي فيها، إنما هو كروسبي الذي يدعو إلى العقلانية، لا تراسي الذي سيبدو، بعنفه ورغباته القتالية وتمسكه بالسلاح، وخطاباته المخاطبة غرائزَ جمهوره، متواطئاً موضوعياً مع تايزون، إذ عبر هاتين الشخصيتين صور ليام أوفلاهرتي، ليس الصراع وأبعاده السياسية فقط، بل نزعة العنف التي جمعت المتقاتلين، ضد غير الراغبين في القتال، ما جعل جزءاً أساسياً من الرواية يطاول تجذّر نزعة العنف لدى فريق كبير من الإرلنديين، سواء كانوا في هذا الطرف أو ذاك، خالصاً إلى أن المعركة الحقيقية إنما هي بين المسلحين، كل المسلحين من ناحية، والمدنيين ومن يدافع عنهم من أصحاب النزعة العقلية، من ناحية أخرى. ومن هنا اعتبرت رواية أوفلاهوتي (1897 - 1984) هذه، رواية إرلندا الحقيقية، ليس فقط بفضل قراءتها المعمّقة للتاريخ وللأحداث، بل كذلك بفضل دراستها الصائبة لجذور التطرف الإرلندي، وكيف يتخذ القتل في النهاية سمات «النضال القومي» ولا يكون ضحيته سوى من يرفضون ذلك النوع من القتل وذلك النوع من الوطنية.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد