«العائلة الأيديولوجية».. نمط اجتماعي إخواني فريد
حولت «جماعة الإخوان» التنظيم الأيديولوجي إلى كيان بيولوجي بمرور الوقت، وذلك وفق قاعدة «الإخواني يجب أن يتزوج إخوانية»، فتداخَل لديها السياسي بالطبيعي، واستخدم كلاهما في خدمة الآخر. فتزاوج أفراد الأسرة المالكة في البلد الواحد أو بنظيراتها عبر الأقطار، هي مسألة حدثت بقوة في التاريخ، من منطلق البحث عن سند وعزوة ولتعزيز النفوذ والثروات. لكن أن تقوم شريحة سياسية واجتماعية في بلد واحد بتضييق الزواج من خارجها وفرضه من داخلها، ليس بحثا عما تعتقد أو تتوهم أنه الأفضل تربويا فحسب، إنما لدعم المشروع السياسي وتبديد الهواجس الأمنية، لهو مسار متفرد وغريب في آن.
أصحاب الثقة وليس اصحاب الخبرة
وعلاقة القرابة والمصاهرة تلعب دورا في الحراك الاجتماعي في أي مجتمعات بشرية بدرجة ما، وربما تصبح في بعض الأحيان طريقا لتولي المناصب والمواقع القيادية، لكن بالقطع ليس بالإفراط الذي عليه الإخوان، وقد يرجع ذلك إلى أنهم جميعا متشابكون في «نسب» لا يكاد ينتهي، ولذا نجد أن تأثير هذه العلاقة على توليهم المناصب مضاعف ومغلظ قياسا إلى غيرهم، لاسيما بعد انحيازهم إلى «أصحاب الثقة» من بين «الأهل والعشيرة» على حساب «أهل الخبرة»، في سياق ما يعتقدون أنها «فرصة التمكين» من ناحية، ونظرا لهواجسهم المرضية حيال «الأغيار» أو «المختلفين» معهم فكريا أو سياسيا من ناحية ثانية.
وربما لهذا نجد مصطلح «الأسرة الإخوانية» قائما كمرحلة من تنظيمها الإداري أو هيكلها السياسي جنبا إلى جنب مع «الوحدة الاجتماعية» التي ينتظم فيها أب أخواني وأم إخوانية مع أولادهما. وكل منهما يتداخل مع الآخر في كثير من المفاصل. ولنا أن نعرف في هذا المقام أن بعض قيادات الشعب والمناطق يتدخلون لحل المشكلات بين الأزواج، وهذه المهمة أسندت ذات يوم إلى الدكتور محمد مرسي في مسقط رأسه بمحافظة الشرقية.
الهرمية داخل التنظيم
والأسرة أو «الخلية» هي اللبنة الأولى والأساسية في تنظيم الإخوان، وتأتي بعدها «الشعبة» ثم «المنطقة» فـ«المكتب الإداري» و«مجلس الشورى العام» وبعده «مكتب الإرشاد» ثم «المرشد». وتتكون الأسرة على هذه الشاكلة من خمسة إلى سبعة أفراد، يقف على رأسهم واحد منهم يلقب بـ «النقيب»، يقود اجتماعا أسبوعيا لمن هم دونه في الترتيب من أفراد الأسرة، يتدارس معهم مناهج مقررة في تفسير القرآن الكريم لاسيما «الظلال» لسيد قطب، والأحاديث المنسوبة إلى الرسول، ورسائل الشيخ حسن البنا، وبعض الكتب المقررة لصفوف الجماعة، علاوة على استعراض الأحداث السياسية وموقف قادة الجماعة منها، والمهام المطلوبة من القواعد في هذا الشأن.
ومن هنا يتخالط لدى الإخوان ما ترتبه مدرستان من ضمن مدارس أو نظريات ومقاربات علمية عدة في تفسير سيكولوجية الجماعات، وهما «الحتمية البيولوجية» و«الحتمية الثقافية». ترى الأولى أن الجينات تلعب دورا مهما في تحديد شخصية الجماعة وتعيين سلوكها، بانتقال الصفات الوراثية عبر الأجيال عن طريق الأحماض النووية. وقد استخدمت بعض المذاهب السياسية اليمينية المتطرفة هذه النظرية لتجديد شبابها. أما الثانية فتدحض هذا تماما وتؤكد أن الأفراد مجرد مرايا للظروف الاجتماعية التي يعيشونها، والمصادر الثقافية التي يتعرضون لها، وأن الخبرات الحسية التي يمر بها الإنسان تؤثر فيه، وهو يولد صفحة بيضاء تبدأ البيئة في كتابة ما تريد عليها، عن طريق الذين يقتربون منه ويؤثرون فيه مباشرة مثل الوالدين والمدرسين وجماعات الرفاق .. الخ.
صفات وراثية للاخوان؟
ولعل الزواج المتبادل والمصاهرة المغلقة لدى الاخوان تجعل الاسرة الاخوانية مهيأة بمرور الوقت لإنجاب إخوان جدد يحملون الصفات الوراثية للوالدين. لكن هذا لا يضمن أن يتطبع الأبناء بما عليه الآباء، بدليل أن بعض المنحدرين من صلب قيادات إخوانية تمردوا على الجماعة. ولا يمكن أن يؤدي هذا، مهما طال الزمن، إلى التعامل مع الأسرة الإخوانية وكأنها جماعة عرقية، ذات سمات وراثية.
وهناك أدلة على قيام الجماعة بـ«تنميط» أعضائها، بما يجعلهم وكأنهم في نظرتهم إلى الذات والمجتمع، شخصا واحدا مكررا مئات آلاف المرات، وذلك عبر مناهج تعليمية داخلية مناسبة لمستويات محب ومؤيد ومنتسب وعامل، ولمختلف الأعمار، يتم تدريسها بانتظام، وهي قابلة للاستبعاد والإضافة وفق الظروف، وتتدرج حسب موقع الفرد داخل الجماعة. فالنقباء يتلقون دورات خاصة حتى يتمكنوا من الوعظ في أفراد «الخلية» وإرشادهم. وما يُعطى لـ«إخوان الصف»، وهم الأعضاء العاملون يختلف عما يعطى لـ«الربط العام» وهم المتعاطفون مع الجماعة، و«الربط الخاص» وهم من على وشك الانضمام إليها، وهذا كله يعطي هؤلاء قدرة ما على مخاطبة «الانتشار» وهو الفضاء الاجتماعي الأوسع الذي تستهدف الجماعة التجنيد منه أو كسب تعاطفه أو تحييده على قدر المستطاع.
كما تحرص جماعة الإخوان على إدماج العضو العامل بها في «الأسرة الإخوانية الممتدة» من خلال علاقة المصاهرة تارة، ومصادر كسب الرزق تارة أخرى، علاوة على برامج التثقيف الأحادية التي تستقر في ذهنه وتربطه أكثر، معرفيا ووجدانيا، بـ«إخوانه». ونظرا لشعور الجماعة الدائم بالخطر الذي يتهددها، فقد عملت بصرامة على لف حبال غليظة على من ينتمي إليها، ويحوز أسرارها ويعرف طرائق عيشها وتحركاتها، حتى لا ينفلت عنها ويعطي ما عرفه أو حصله لمن تطلق عليهم أعداءها.
وتحمل مكاتب الجماعة في مختلف أنحاء البلاد قوائم بشباب وفتيات من المقبلين على سن الزواج، وترشح بعضهم لبعضهن، من منطلق إدراكها أن الأفضل أن يتزوج الإخواني إخوانية، حرصا على أسرار التنظيم، وعلى صبر الزوجة حين يغادرها زوجها إلى السجن، ويترك لها مسؤولية تربية الأولاد، وحفظ عرضه، ورد غيبته، وإن لم يكن له مصدر رزق ثابت فالجماعة تتكفل بأسرته تلك.
«تأخير نصر الجماعة»
وقد كشف القيادي الإخواني صبحي صالح عن هذا ذات مرة حين اعتبر أن زواج الإخوانى من خارج الاخوان يؤخر نصر الجماعة، قائلاً: «كل هذه الأخطاء في التربية تؤخر النصر، ورب العزة رب قوانين، إن تنصروا الله ينصركم»، ثم وصل به الأمر إلى توظيف الآية القرآنية «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير» في غير موضعها، راسما بذلك ملامح عنصرية طافحة، وشعور زائف بأن الإخوان أرقى من غيرهم.
وكثير من الأعضاء الذين فكروا في الإقدام على الخروج عن الجماعة استخدمت أسرهم في الضغط عليهم، الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، والأم والأب على الأبناء، وهكذا. وقد أفلحت هذه الطريقة في إجبار البعض على أن يستمر ضمن صفوف الجماعة، وأن يكبت مشاعره ويخفي تذمره حتى لا يهدم أسرته أو يظهر بمظهر من يعصي أهله الأقربين. ومن يصر على موقفه ويغادر الجماعة مستعدا لتحمل أي غرم، لا يلبث الإخوان أن يلاحقوه بضراوة، فيطلقون عليه الشائعات من قبيل «جندته مباحث أمن الدولة» أو «فتنته زينة الحياة الدنيا» و«ضعف إيمانه وتراخى عزمه». ويتم هذا بشكل منظم يهدف ليس فقط إلى تشويه المنسحب من صفوف الجماعة، بل أيضا ردع غيره، ممن تراودهم أنفسهم أن يحذوا حذوه أو يقتفوا أثره.
زواج كاثوليكي؟
والثابت أن الإخوان يمكن أن يتعاملوا مع من ينتقدهم بل يجلدهم من خارج الجماعة، لكنهم يقاطعون من كان بينهم وخرج عنهم، مهما كان حجم تضحياته من أجل الجماعة، ومهما كان طول أمد انتمائه إليها، ومهما كان الأثر الذي تركه أو البصمة التي طبعها على مسارها. وبعض هؤلاء يقضي بقية حياته منكسرا، يرنو إلى الجماعة من بعيد، أو يعيش على ذكرياته معها، لأنه لم يعرف غيرها، وبعدهم يمعن في التحدي والمواجهة إلى درجة فضح كل شيء.
وتوظيف الأسرة الاجتماعية لصالح التنظيم خلق تماسكا إجباريا في صفوف الجماعة، لكنه لم يق بعض أفرادها من الصراع الداخلي بين ما يفرضه الدين وما تطلبه الجماعة، وبين ما يراعيه الضمير وما يأمر به التنظيم. ومن ثم يمكن لهذه الرابطة الإكراهية الأشبه بالزواج الكاثوليكي، أن تخلق نفوسا خائرة، وتصنع أناسا لا يدافعون عن فكر أو نهج أو اعتقاد راسخ في عقولهم وقلوبهم بل ينافحون عن مصالحهم المادية أو يجنبون أنفسهم كيد الجماعة ونكد الأهل.
وفي تاريخ الإخوان كثيرا ما تمرد أبناء على آبائهم، حين استيقظوا على هوة بين القول والفعل داخل الأسرة الاجتماعية، أو تعرضوا لمصادر أخرى لنهل الثقافة والمعرفة، أو مروا بتجارب حياتية مختلفة. وهناك شهادة في هذا الشأن للشاب أدهم جمال الذي تعرض لاعتداء وحشي على أيدي الإخوان خلال المظاهرة التي تم تنظيمها أمام مقر مكتب الإرشاد بالمقطم في 17 آذار/مارس 2013، حيث قال: «من ضمن الذين تم اعتقالهم معي صبيّان أحدهما يدعى ماجد والآخر أشرف، عرفت منهما أنهما ينتميان إلى أسرتين اخوانيتين، لكنهما خرجا من مكان لتلقي الدروس الخصوصية بالقرب من مقر الإخوان وانضما إلى المتظاهرين وشاركا في قذف الحجارة. والأول رفض أبوه استلامه من الشرطة حتى يعاقبه على ما فعل، والثاني رفضت أمه أن تعطيه الطعام الذي أحضرته إليه في مقر احتجازه بقسم شرطة المقطم، حين وجدته مصرا على السخرية من الإخوان وانتقاد أفعالهم».
هذا النمط الاجتماعي والإداري كان من العوامل المهمة التي ساعدت على استمرار «تنظيم الإخوان» متماسكا، وقللت من قدرة منافسيه أو أجهزة الأمن على اختراقه. لكنه في الوقت نفسه يحمل بذور تصدع التنظيم وضعفه، لأنه يقوم على أمرين متناقضين هما «العبودية الطوعية» من ناحية و«الإكراه المادي والمعنوي» من ناحية أخرى. وفي الحالتين هناك خلل كان مسكوتا عنه قبل ثورة يناير وأيام ملاحقة الإخوان، لكنه لن يظل كذلك بعد وصولهم إلى الحكم.
عمار علي حسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد