لماذا يكتم السلفيون هذا العلم؟
التنوير يبدأ من التنوع وينتهي بالأحادية الفكرية والسياسية..هكذا قال التاريخ، فصراعات البشر عندما تؤدي لفناء أحد الأطراف يبدأ الآخر في سيطرته وفرض قناعاته ومشروعه الخاص، ذلك المشروع قاصر بذاته وموضوعه لقصور المصدر وهو الإنسان، فالبشر كائنات ليست ذكية دائما ، ومهما بلغ معدل الذكاء بفرد فإنه يصبح غبيا في جوانب أخرى، وعندما يفرض هيمنته يُخيّل إليه ذكاءه وغروره الذي كسبه نفسيا بنشوة الانتصار أنه (كائن لا يخطئ) فيفشل على الفور..
هكذا هي مسيرة الإنسان في التاريخ..قد يبدأ ذكيا في مشروعه ثم ينتهي غبيا فاشلا، ومن ثم بحث الفلاسفة لعلاج هذه الحقيقة الاجتماعية السلبية فوصلوا لضرورة تداول السلطة والتنوع السياسي والفكري كضمانة على بقاء المنافسة ، فالإنسان في ظل تنافسه الشريف مع أقرانه يُبدع ويتألق، إنما في ظل فقدان المنافسة يفقد الإبداع ويلجأ للتقليد والتبعية والجمود والعُزلة ويُفضلهم عن التحرر والانفتاح، ثم بفقدان المنافسة يفقد البشر حبهم للحريات فيصبح أي رأي آخر – مهما كان وجيها له أدلته – هو رأي كافر وخائن وغبي ومتآمر ومهرطق، إنها مفردات القرون الوسطى في وصف الآخرين حين غابت الحريات وكان الملوك فيها آلهة تُعبد في الأرض، فيقدم لها المنافقين وحملة المباخر من التجار والكهنة فروض الطاعة والولاء، ويكثر المديح للسلطات..
المجتمع الذي يفقد عنصره الأنثوي ويتحكم فيه الذكور ويشيع فيه اضطهاد الأنثى يكثر فيه الغباء والعنف لهذا السبب، فتنافس الذكور لإرضاء الأنثى بحكم الاحتكاك هو الذي يجعل المجتمع مسرحا للذكاء والمثابرة والدعابة والفكاهة والإبداع القصصي، وعندما تغيب الأنثى يغيب ذلك المسرح فيكون الجهل والكآبة والحُزن مخيما على المجتمع، وهذا سر من أسرار تطور البشرية الهائل آخر 150عام بما يفوق تطورها منذ نشأتها قبل ملايين السنين، إنها الأنثى التي أعادت إحياء الرياضات الأوليمبية ليُعاد تشكيل البنية الجسدية الذكورية رياضيا فيما دون الحرب، وصار تنافس الذكور أيهما أقوى وأجمل جسدا بعدما كانت معايير الجمال الذكورية القديمة أيهما أطول شاربا وأكثر تجهما وغلظة، حتى أننا نجد ذلك في الحيوانات أنه وفي موسم التزاوج تكثر المنافسات الذكورية لاستعراض القوة، فانتقل الإنسان من دائرة النظرية للفعل والتطبيق وصار مهتما أكثر بنتائج أفعاله دون الانشغال بقضايا الميتافيزيقا..
المسلمون قديما لم يكونوا بدعا من الشعوب فكانت مجتمعاتهم مستبدة كسائر الناس، ويحكمها الدين بنفس الوضع، وصراعات الفقهاء وتكفيرهم لأنفسهم لم ينقطع كتعبير عن شيوع الغباء والتفاهة بين النخب والأعيان..فلم يهتموا بقضايا الإنسان المصيرية في إصلاح حال الفقراء والضعفاء والعبيد..فظلت هذه الفئات مهمشة طوال القرون الوسطى إلى أن حدثت النقلة الحداثية لتحريرهم من سلطات ونفوذ الأعيان، وعندما جاء السلفيون الوهابيون بدينهم أعادوا إحياء تلك العبودية والعنصرية من جديد باسم الدين والشريعة، وصمتوا عن صراعات وخلافات الفقهاء وتكفير أئمتهم لبعضهم دون داعي، فورث المسلمون بالعصر الحالي ذلك الصدر الضيق والخلق الفظ تجاه المخالفين وسرعة الغضب ضد أي معارض بشكل عام..
أذكر نموذجا على ذلك من السلفية ، أنهم حين طبعوا كتاب "العواصم من القواصم" للإمام "أبو بكر بن العربي" المتوفي عام 543هـ، نراهم قد حذفوا من هذا الكتاب تكفير بن العربي لإمامهم "أبي يعلي الفراء الحنبلي" المتوفي عام 458هـ ، فالمشهور أن ذلك الكتاب (كفّر) فيه بن العربي كبير الحنابلة في زمنه بتهمة التجسيم والتشبيه، وقد اطلعت على نسخ كتاب العواصم لدور نشر سلفية كدار الجيل ووزارة الأوقاف السعودية لم أعثر على كلام المالكي في شأن أبي يعلي، فهو تزوير فاضح في مكتبات ودور نشر السلفية للتراث بلا رقيب ولا حسيب، علما بأن الحكمة من نشر كتاب المالكي وقبوله من دور نشر سلفية أن هذا الكتاب كان يرد فيه الإمام "أبو بكر بن العربي" على مؤرخين وفقهاء نقلوا أخبارا مسيئة للصحابة، وفيه تكفيرا للشيعة بالطبع لذلك نشروه، لكن المالكي كان هجوميا لم يفرق بين شيعي وحنبلي فنشروا ما يخص تكفير الشيعة وحذفوا ما يخص تكفير الحنابلة..
ومن الطريف أن ما كتبه أبي يعلي في كتاب "الصفات"وأدى لتكفير ابن العربي له، دفع حنابلة آخرون كابن الجوزي البغدادي المتوفي عام 597هـ للرد عليه في كتاب "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" لكن السلفيين لم يطبعوا كتاب ابن الجوزي أيضا لهجومه على أبي يعلي ولشكوك حول انتساب ابن الجوزي للأشاعرة بهذا الكتاب، والمستفاد من ذلك أن عملية تزوير واسعة للعقل الإسلامي حدثت بمكتبات ودور نشر سلفية أنفق عليها بالمليارات مع حذف وإضافة متعمدة ليخرج التراث موافقا للمذهب الوهابي، فقط كنتيجة مباشرة للأحادية الفكرية وتصدر السلفيون للخطاب الدعوي مع دعم مباشر ماليا وسياسيا بشكل ممنهج، علما بأنه ما زالت عمليات كشف التزوير تحدث تباعا، وسنويا تظهر عمليات تزوير جديدة نتيجة لاحتكار جماعات العنف للتدين الشعبي بشكل عام
وبرأيي أنه لولا التعددية الفكرية (الإجبارية) التي يعيشها المسلمون الآن بفضل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ما أمكن كشف هذا التزوير، ولا الاطلاع على حقيقة تورط بعض النخب المثقفة فيها عن عمد كتزوير الكاتب "أنيس منصور" رحمه الله لكتاب الأمريكي "مايكل هارت" بعنوان (ال 100 الأكثر تأثيرا في التاريخ) ليصبح عنوانا آخر (العظماء الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله) مع حذف وإضافة فقرات من عنده في المحتوى، علما بأن المؤلف الحقيقي اتهم النبي بتأليف القرآن في الكتاب، لكن الدكتور أنيس لم يذكر ذلك وحذفها من النسخة المترجمة، إضافة لوضع الكاتب مجرمين كبار في تلك القائمة "كأدولف هتلر ونابليون بونابرت وجنكيز خان".. أي أن الكتاب يذكر الشخصيات المؤثرة عالمياً وإقليمياً بغض النظر عن نزاهتها أو أنها عظيمة..
والدليل قول المؤلف في الكتاب الأصلي.." هذه لائحة لأكثر الناس تأثيراً في التاريخ وليست لائحة للعظماء. مثلاً يوجد مكان في لائحتي لرجل مؤثر بشكل كبير، شرير، و بدون قلب مثل ستالين، ولا يوجد مكان للقديسة الأم كابريني"..هذا يعني أن الكتاب يحتوي على عظماء وأشرار في نفس الوقت، والمثير أنه وضع النبي فعلاً على رأس القائمة لكن قال في تبرير ذلك .. "المثال الملفت للنظر هو ترتيبي لمحمد أعلى من المسيح، ذلك لاعتقادي أن محمداً كان له تأثير شخصي في تشكيل الديانة الإسلامية أكثر من التأثير الذين كان للمسيح في تشكيل الديانة المسيحية. لكن هذا لا يعني أنني أعتقد أن محمداً، أعظم من المسيح."..انتهى، علما بأن النبي لم يكن في حاجة لمدح مايكل هارت فهو رسول يؤمن به 1600 مليون مسلم ودعوته حازت على ثقة ملايين العقلاء والعلماء، لكنها عقدة النقص/ الخواجة التي سيطرت وهيمنت على مثقفي الشرق الأوسط..
أتخيل لو لم يكن هناك تنوعا ومنافسة وبيئة تتسم بالحريات الفكرية على وسائل التواصل فهل كان للمسلمون القدرة على كشف هذا التزييف؟..وهل كانت لهم القدرة على كشف مواقف أسلافهم التكفيرية من بعضهم البعض؟ فالوهابيون عندما سيطروا على مجتمع المسلمين أخضعوا كل مؤسسات ومكتبات ومساجد ونقابات الدولة لصالحهم، اخترقوا الإعلام بعشرات الفضائيات يبشرون فيها بدولة الخلافة والشريعة الغائبة، وبمعصومية البخاري ومسلم كأصح الكتب بعد القرآن في تفاضل عددي نفسي ذكرناه سابقا أدى لربط هذه الكتب بالقرآن ووصفها (بالوحي الثاني) وأتحداهم أن يكونوا قد ذكروا لتلاميذهم أن الإمام مسلم كان يشتم البخاري ويراه منتحلا لعلم الحديث كما جاء في مقدمة كتابه الصحيح.
فالإمام مسلم كان يرى البخاري وشيخه علي بن المديني جُهلاء ومنتحلين لعلم الحديث، والسبب خلافهم في مسألة (الرواية المعنعة) التي جاءت بصيغة (عن) دون أخبرنا وحدثنا، فالبخاري كان يقول أن الحديث المعنعن لو لم يثبت لقاء الراويين ويكونوا أبرياء من الجرح والتدليس فهو موصول (أي سنده صحيح للرسول) لكن مسلم قال بكفاية ثقة الراوي للحكم باتصال الراوية، ولا يلزم ذلك ثبوت لقاء الرواه ببعضهم..ومن أجل ذلك شتم مسلم البخاري..لكن بالإشارة دون التصريح.
والنص كما يلي عند مسلم "وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الْأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا بِقَوْلٍ لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ، وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا، وَمَذْهَبًا صَحِيحًا، إِذِ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لِإِمَاتَتِهِ، وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ، وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّا لَمَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ شُرُورِ الْعَوَاقِبِ، وَاغْتِرَارِ الْجَهَلَةِ بِمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَإِسْرَاعِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ خَطَأِ الْمُخْطِئِينَ، وَالْأَقْوَالِ السَّاقِطَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، رَأَيْنَا الْكَشْفَ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ وَرَدَّ مَقَالَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الرَّدِّ، أَجْدَى عَلَى الْأَنَامِ، وَأَحْمَدَ لِلْعَاقِبَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ» انتهى، وفي ذلك يعقب الإمام النووي على كلام مسلم قائلا: " وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون وقالوا هذا الذي صار إليه ضعيف، والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن علي بن المديني والبخاري وغيرهما"..(شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 128) ...وعلق عليه ابن الصلاح أيضا بقوله «وَفِيمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ نَظَرٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ القَوْلَ الذِي رَدَّهُ مُسْلِمٌ هُوَ الذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا العِلْمِ: عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، وَالبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمَا" (علوم الحديث لابن الصلاح صـ 72)
شئ آخر: لم يكن كل المحدثين يجمعون على أفضلية البخاري، إنما كبار المحدثين الأوائل في القرن 3 هـ ومنهم الأئمة "أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي وابن يحيى الذهلي وأبو علي النيسابوري..وغيرهم" كانوا يقدمون صحيح مسلم على البخاري، والأخير كان يقول "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في الحديث"..(صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح صـ 61، 69) وهي نفس العبارة التي قالها ابن خزيمة في تقوية البخاري " ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد ابن إسماعيل البخاري" والمستفاد من ذلك أن قصة تقديم الصحيحين والتفاضل بينهما عمل بشري بامتياز..وخلاف فقهي بين شيوخ المسلمين كان ولا يزال إلى اليوم، ولم يحصل الإجماع عليهما أبدا..وتقديسهما والتخويف من نقد أحاديثهما حصل في عصور متأخرة كما شرحنا في السابق بداية من العصر المملوكي وبدء عصر ما يسمى (شروح الحديث) الذي صار فيه الصحيحين مقدسين، نزولا لما فعله ابن بطال مع البخاري وابن عبدالبر مع موطأ مالك في العصر العباسي..إنما الفكر الإسلامي لم يهتم عموما بشروح الحديث ويكثر فيها سوى بالعصر المملوكي ونهاية حضارة المسلمين رسميا..
أي أن نهاية حضارة المسلمين كانت لها علامات أبرزها بدء تقديس كتب الروايات والصحاح، وتقديم البخاري ومسلم على الجميع، ثم البخاري كرمز مخالفين في ذلك لمواقف أئمة الحديث في القرن 3هـ الذين كانوا في معظمهم ينقدون البخاري ويرونه ضعيفا كما بينا، حتى أن الإمام الذهبي في كتابه "الضعفاء والمتروكين" وضع البخاري من ضعفاء الحديث، والسبب أنه عندما بحث في تراجم الرجال وجد مواقف شيوخه القدامى (أبو زرعة وأبو حاتم المشهوران بالرازيان – إضافة لمحمد بن يحيى الذهلي) ضد البخاري فكان أمينا وشجاعا في تدوين ذلك..وهو ما أغضب عليه بعض الفقهاء كالإمام المناوي الذي استنكر على الذهبي ذلك في كتابه فيض القدير..
السر في رفض هؤلاء للبخاري وتقديم مسلم عليه أمرين اثنين: الأول: أن البخاري كان يقول (بأن لفظ القرآن مخلوق) والإمام الذهلي قال أن ذلك بدعة، يعني البخاري عند الذهلي والرازيان كان مبتدعا ليس من أهل السنة والجماعة..بل الإمام أحمد بن حنبل كان يصف من يقول بذلك أنه (جهمي ) وبالتالي فالبخاري كان عند ابن حنبل جهمي أيضا..! الثاني: روي عن البخاري قوله (أن الإيمان مخلوق) وهذا قول كُفري عند بعض مذاهب المسلمين خصوصا الحنفية، ويقال أن طرد البخاري من مسقط رأسه بخارى هو قوله بخلق الإيمان، ورواية أخرى ذكرناها سابقا وهي (تحريم النكاح بلبن الماعز) مما يعني أن موضوع علم الحديث بشري بامتياز وقائم على فكرة (نسبية) هي آراء الناس في بعضهم البعض ، وكما رأينا فأئمة الحديث غير متفقين على أفضلية أحد منهم على الآخر..فهم ما بين مُبدع ومُكفر ومُفسّق لأي من يعارضهم، وقد ورث السلفيون ومعظم الشيوخ هذه الآفة منهم بتكفير وتبديع من يخالفهم الرأي، علما بأن الحسد والحقد والكراهية صفة بشرية عانى منها فقهاء السلف السابقين ، لكن ما يعطي القوة لأحدهم هو (السلطة) التي تأتي بقرارات وفرمانات تفرض رأي الخليفة ليصبح دينا..ثم يأتي البلهاء في زمن متأخر ليقلدوهم دون وعي..
د.سامح عسكر: الحوار المتمدن
إضافة تعليق جديد