«بينما أرقد محتضرة» لجيمس فرانكو... المُشاهد الضمني
ثلاثة عناصر تجعل أفلمة الممثل والمخرج السينمائي الأميركي جيمس فرانكو رواية وليم فولكنر «بينما أرقد محتضرة»، التي عُرضت للمرّة الأولى في مهرجان «كانّ» السينمائي (أيار2013) ضمن خانة «نظرة ما»، تجربة عصيّة على المتابعة، ناقصة في مؤانستها، على الرغم من حداثويتها وثورويتها الفريدتين الملعونتين.
أول العوائق: الأسلوب الصُّوَري الذي قَطع فرانكو عبره شاشة فيلمه إلى قسمين ـ مشهدين ـ لقطتين، كلّ منهما يحمل خطاً درامياً يُكمّل في أحايين روح جاره، أو يشذّ عنه ليؤكّد بداية فصل جديد من القصّ. أسلوب امتاز بشدّة أمانته إلى بناء رواية فولكنر (1897 ـ 1962)، المُشادة بأكملها على اعترافات أفراد العائلة المنكوبة وإفصاحهم، كلّ على حِدَة، عن غمّ حياته، مثل الأب الوغد آنس، الذي لن يتوانى عن بيع أولاده أو سرقة المال الخاص بعملية إجهاض ابنته كي يشتري أسناناً اصطناعي، أو لوثة كيانه على شاكلة الإبن الثاني دارل، الغريب الأطوار والمسكون بالريبة، وأيضاً شقيقه جويل الشرس والعنيد.
ثانيا، إن لعبة «التغريب البصري» الخلاّقة تجعل طقس مشاهدة فيلم فرانكو (1978)، بالنسبة إلى امرئ غير لبيب أو صبور، بمثابة مضيعة وقت وتنكيل.
ثالثاً، في ما يتعلق بلكْنة شخصيات الفيلم، هم من أهل ولاية «مسيسيبي»، حيث تدور حكاية آل بندرن المَنكُودة والمحاصَرة بقهر اجتماعي، ومهانات عُسر اقتصادي لقاطني الولايات الجنوبية الأميركية. ذاك اللسان ولهجته ثقيلان على الإمساك بلفظهما ونبرتهما وتنغيمهما ومعانيهما.
مخاطرة سينمائية؟ بالتأكيد. بيد أنها موغلة في إشكالية انتمائها. فلا هي ضرب من شيفرة سرديّة فارغة المعالم أو المحتوى، ولا هي دسيسة سينمائية تسعى إلى تأسيس شرعيتها عبر «سرقة» روح تيار الوعي وصيغه المتراكبة. يلتفت نصّ فرانكو وزميله في الدراسة مات راجر بجَسَارة إلى ما يمكن نعته بـ«مُشاهد ضمني»، أي تلك الذات الثانية التي تعيد مع المخرج ـ المؤلف صوغ نصّ فولكنر سينمائياً مرّات عدّة، ومن زوايا ذوقية مختلفة. من هنا، تأتي تجريبيته الآسرة وطليعية لِعَبِها الذكية على تقنية بارت عن الاستخدام، تُذكّر بخلاصات صاحب «مولد أمة» (1915) و«التعصب» (1916)، رائد السينما الأميركية د. دبليو. غريفيث. هذه أفلمة جَسَورة سيجدها «قارئ ـ مشاهد» من الملمّين بالخيط الدرامي للرواية، والمقتربين من محن أبطالها، والمتصوّرين لمحيطها القاسي والمنعزل، أكثر دهشة وديناميكية من الاقتباسات الأخرى ذات الطابع الهوليوودي التفخيمي، المأخوذة عن أدب فولكنر، مثل «الصخب والعنف» (1959) لمارتن رِت، و«الملائكة المشوّهون» (1957) لدوغلاس سيرك عن رواية «بايلون» (1935)، و«متطفّل في الرماد» (1949) لكليرانس براون، وغيرها.
البطل الرئيسي في فيلم فرانكو هو المحيط الريفي المشعّ (تصوير كريستينا فوروس)، الذي يتحوّل ببطء إلى جحيم رمزي لعذابات هذه الأسرة وشقائها الأخلاقي. بهاؤه يُلوَّث بخطايا الأخوة الذين ينتظرون آخر أنفاس والدتهم الراقدة على فراش موتها، والمحكومين برغبتها في الدفن بمقبرة ذويها بعيداً عن مزرعة عائلتها التي ستَحرقها فواجعهم لاحقاً. لن يغفل فرانكو أهمية تقديم شخصياته التي اعتنى، بنباهة، بطلاّتها الوحشيّة، لنتابع مرورهم أمام عينيّ الأم المحتضرة، خصوصاً الأب (تيم بليك نيلسن) الذي لا يني يلعن أولاده «سيسامحني الرّب ويعذرني على سلوك أولئك الذين وهبني إياهم»، فيما ينعكس هذا الغلوّ على داريل (فرانكو) بتفلسفه الذي يُبرّر عنفه اللاحق: «ما دام الغش يسير بهدوء وبوتيرة واحدة، فقد تركنا المجال لأنفسنا جميعنا أن نُخدع». أما قلب لوعة الأسرة المنكوبة الابنة ديووي ديل (أهنا أورلي)، فتصف عَثرَة سفاحها باعتبارها خطيئة قدر لا رغبة جامحة: «إنني مثل بذرة رطبة برّية في الأرض الساخنة العمياء»، قبل أن تنتقم من شقيقها دارل وتقتله بسكين، وهي تردّد «أؤمن بالله» (عن ترجمة توفيق الأسدي، دار المدى، بيروت).
الرحلة الطويلة للعائلة، التي تنتهي بـ«رؤية عمياء وحاسّة سمع صماء» بحسب كاتب «قداس لراهبة» (1951)، تمثّل حكماً قاسياً على آثام خطاة شكلّتهم مفازات لا ترحم، ولأنهم، فوق كل شيء، لا يعرفون «ما هو الإثم في تقدير الرّب».
زياد الخزاعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد