«تشريحٌ للعالم» لجون دان: الكون والمصير من خلال موت فتاة
حين ماتت الصبية الحسناء اليزابيث دراري عام 1610، كانت فقط في الخامسة عشرة من عمرها. وكان يمكن موتها ان يمر مرور الكرام في ذلك الزمن. فالصبية لم تكن معروفة، وأهلها كانوا أناساً عاديين طيّبين، حتى وإن كانوا أثرياء بعض الشيء في مقاييس زمنهم، وأيّ من أهلها لم يقم بمأثرة تخلده أو تبرّر تخليد أي من ذريته. ومع هذا دخل اسم اليزابيث تاريخ الشعر الانكليزي من بابه العريض. إذ من أجلها كتب جون دان، الذي كان واحداً من كبار الشعراء الانكليز «الميتافيزيقيين» في تلك الحقبة، قصيدته الطويلة الشهيرة «تشريح للعالم». غير ان اللافت في الأمر هو أن جون دان الذي كان عند وفاة اليزابيث في الثامنة والثلاثين، لم يكن مغرماً بها، بل انه لم يلتق بها على الاطلاق. كل ما في الأمر ان والدها السير روبرت كان من معارفه، وكان رافقه في رحلة قبل ذلك. وحين احتاج دان للإقامة في لندن عام 1612، كان السير روبرت هو الذي آواه في منزله. وهناك اطّلع دان على مأساة اليزابيث التي كانت رحلت قبل وصوله بعامين. فكتب تلك القصيدة التي تعتبر من أقوى القصائد الانكليزية التي كتبت في ذلك الزمن. والتي حملت من المشاعر الحزينة الصادقة، ما جعل كثراً، على مدى مسيرة الشعر الانكليزي يخيل اليهم ان اليزابيث كانت حبيبة دان، أو قريبته أو انه عرفها على الأقل.
> ولكن، هل كانت قصيدة «تشريح للعالم» قصيدة لاليزابيث دراري، أو عنها أو عن موتها حقاً؟ أبداً... لم تكن كذلك. فالواقع ان حكاية موت تلك الصبية الفاتنة والبريئة، لم تكن أكثر من ذريعة حرّكت فكر الشاعر وخياله وقلمه ليخط عملاً يتأمل فيه زمانه، والموت والحياة والعلم والعناصر، ومصير الكائن البشري في هذا العالم. فعند تلك الحقبة الزمنية التي كانت انعطافية حقاً في تاريخ الفكر وفي تاريخ العلم، ما كان لشاعر من طينة جون دان، يعتبر الأكبر الى جانب بن جونسون، أن يكتب إلا انطلاقاً من تأمله لما يدور حوله، وللتطور الذي يطاول العالم. وفي ذلك الحين كان لذلك التطور رموز وأعلام، منهم العلماء: غاليليو وكيبلر وكوبرنيكوس، ومنهم الفيلسوف فرانسيس بيكون... وكان هؤلاء جميعاً يدعون، كل على طريقته، الى عالم عقلاني مادّي يُعمل الفكر، لا العواطف، في شؤون الكون ومصيره. وفي ذلك الحين كان جون دان مثاليّ التفكير، يعتبر أنه لا يزال ينتمي الى تلك العصور الوسطى، التي لا تريد للعقل ان يعمل بكل طاقته، مفضّلة التوغل في الأبعاد الغيبية والتوقف عند السمات الميتافيزيقية للوجود. وكان من الطبيعي والحال كذلك، ان يرى جــون دان أن هذا العالم الجديد «الهاجم علينا بكل قواه الهمجية، ساعياً الى تحطيم كل ما هو سام وجليل» هو صنو لموت الإنسان، ولموت البعد الإلهي في الإنسان. ولما كانت صورة اليزابيث دراري كما نقلت اليه وأحسّ وجودها في منزل والدها الذي آواه، قادرة على التعبير عن صورة هذا الإنسان، رأى دان ان في امكانه ان ينطلق من موت تلك الصبية ليعتبره موتاً للعالم... العالم الصادق الحقيقي.
> تتألف قصيدة «تشريح للعالم» An Anatomie of the world من ثلاثة أقسام، يحمل أولها اسم «ذكرى الميلاد الأولى»، والثاني «تأبين جنائزي»، أما القسم الثالث فيحمل اسم «سفر الروح» مع انه يحتوي على ما أطلق عليه اسم «ذكرى الميلاد الثانية». ومن هنا أطلق على القصيدة ككل، في تاريخ الأدب الانكليزي عنوان «أعياد الميلاد» وهو الاسم الذي تعرف به شعبياً.
> في القسم الأول، إذاً، يحكي لنا جون دان كيف ان تلك التي كانت منبع الفضائل كلها، قد ماتت، فمات بالتالي ذلك الطلاء الذي كان يغلف العالم كله ويعطيه جدواه ومعناه. وهكذا إذ مات العالم كله بالتالي، وإذ نعرف ان ليس من الممكن اعادة هذا العالم الى الحياة - تماماً كاستحالة اعادة الصبية الى هذه الحياة بعد موتها - لا يعود أمامنا إلا أن ننقب في جسد هذا العالم الميت لنبحث عن امكانية العثور على أي شيء فيه، على أي عنصر يكون مفيداً وحيوياً للذين لا يزال لديهم بريق حياة ما، استقوه من تلك الفاتنة/ الرمز التي ماتت. وإذ يمعن الشاعر في القسم الثاني «تأبين جنائزي» في التوقف عند فضائل الراحلة، رابطاً اياها مرة أخرى بالعالم وأحواله وآلامه وأفراحه، يأتي في القسم الثالث ليروي لنا مسار صعود الصبية نحو السماء. ومن الواضح هنا ان ثمة تقابلاً وتكاملاً بين القسمين الأول والثالث، يجعلان من القسم الثاني مجرد فاصل استراحة بينهما. وبكلمات أوضح، ثمة بين ذينك القسمين مجال للتأمل الفكري والديني ينطلق من فكرة الموت كما كانت تعالج في الآداب الدينية خلال القرون الوسطى، تحت سمتين أساسيتين: الأولى هي الاحتقار التام لكل شيء دنيوي مادي وملموس، والثانية هي تمجيد الأعالي والفردوس. وواضح ان العامل المسيطر على «ذكرى الميلاد الأولى» هو العامل الأول، بينما يسيطر تمجيد الفردوس والتغني بخلود الروح وحياة الآخرة على القسم الأخير من القصيدة حيث يروي لنا الشاعر، في أبيات قصيرة يملأها شيء من الاكتئاب المفتوح على ضوء آت من بعيد، صعود الصبية الى الفردوس، أي سفر روحها الى مكمن السعادة الأبدية ذاك.
> وفي هذا القسم الأخير، إذ يثني جون دان على مآل الروح، يعطي نفسه الحق في التنديد، المبطّن غالباً، بكل ذلك الفكر وكل ذلك العلم، اللذين لا يسعيان إلا لإلغاء البعد الروحي في حياة الإنسان «لحساب مادّية لا تعد إلا بالفناء معتبرة موت الجسد موت كل روح وحياة»... وهو أمر لا يقره جون دان بأية حال من الأحوال.
> لقد نالت هذه القصيدة، منذ نشرت للمرة الأولى، حظوة كبيرة لدى قرائها، حتى ولو كانوا من الماديين، إذ انه كان من الصعب ترك كل جمالاتها للتوقف عند ذلك البعد الذي يحمل حنيناً الى «الماضي الغيبي». ومع هذا لم يعدم جون دان، من يرى أنه - على الأقل في القسم الأول من القصيدة - قد بالغ كثيراً في الاحتفال بتلك الفتاة المجهولة الميتة، على رغم انه لم يلتقها أبداً... فكيف حدث أن وصفها بصفات ملائكية، بل تحدث عنها بعبارات تليق بالآلهة في بعض مقاطع القصيدة؟ والحقيقة ان هذه المغالاة هي التي أخذت على دان دائماً، ولكن من دون أن تقلل من قدر الطابع الفني الخلاب لـ «قصيدة القصائد في الزمن الانعطافي» كما كان يقال عنها، القصيدة التي تحتوي بين الحين والآخر على مقاطع وصور في منتهى الجمال والاشعاع، بامتلائها بذلك النسغ الصوري واللغوي الذي عرفت به أشعار جون دان كلها.
> جون دان المولود عام 1572 والراحل عن عالمنا عام 1631، بمعنى انه كان معاصراً لشكسبير ولبن جونسون في آن معاً، يعتبر من كبار الشعراء في تاريخ الأدب الانكليزي... وهو، مثل أبيه الذي كان وجيهاً، وبقية أفراد عائلته، كان كاثوليكياً، بل يسوعياً حتى... كما نال تربية كاثوليكية. ويبدو انه، خلال سنوات مراهقته قام بجولات عدة في أوروبا الجنوبية، كما كان كثير القراءة... ويبدو أثر هذا كله في كتاباته التي غلب عليها الشعر، كما ان بعض قصائده الأولى مثل «العاصفة» و «الهدوء» تصف مغامرات شارك فيها ضد السفن الاسبانية، ومن أجل مطاردة الكنوز. غير ان حياة المغامرة هذه لم تُزل اكتئابه الذي جعله، في بعض الأحيان، يميل الى الانتحار كما يخبرنا هو نفسه في بعض قصائده ولا سيما في نص شهير له عنوانه «بياتانوتس». ولجون دان عدا عن هذا، الكثير من الصلوات التي كتبها وبخاصة خلال سنواته الأخيرة، كما اشتهر له كتاب سمّاه «دراسات حول الألوهية» وآخر عنوانه «عبادات».
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد