«ذهب أسود» للفرنسي جان ـ جاك آنو فيلم عادي بدعاية وميزانية ضخمتين
لم يكن «ذهبٌ أسود» للفرنسي جان ـ جاك آنو مُصيباً، سينمائياً، في قراءته الآثار المتنوّعة التي أفرزها اكتشاف النفط في الجزيرة العربية، في ثلاثينيات القرن العشرين. لم يكن سهلاً على مُشاهد الفيلم الأخير لمخرج بعض روائع السينما الفرنسية والدولية، أن يتغاضى عن براعة الإخراج السينمائي في فيلم آخر تناول المسألة نفسها تقريباً، لكن في بقاع جغرافية مختلفة تماماً، أنجزه الأميركي بول توماس أندرسن في العام 2007 بعنوان «ستكون هناك دماء». لم يكن ممكناً لمحبّي السينما التحرّر من الوطأة الجميلة والساحرة لفيلم أندرسن، أثناء مشاهدتهم «ذهبٌ أسود». الأسباب كثيرة. أوّلها منبعثٌ من الفيلم الفرنسي: ضعف الاشتغال الدرامي المتعلّق باكتشاف النفط ومغزاه وآثاره، في بيئة يتنازعها انتماء حادّ لتقاليد حياة وسلوك عيش، ورغبة ملتبسة في الخروج إلى المستقبل. ثانيها خاصّ بالفيلم الأميركي: جمالية الكتابة السينمائية والمعالجة الدرامية لحكاية الاكتشاف والمسار التراجيديّ للشخصية الرئيسة. أي أن السقوط المدوّي لـ«ذهب أسود» دافعٌ إلى استعادة «ستكون هناك دماء»، إن لم تكن استعادة أفلام شبيهة أخرى ماثلة في كلاسيكيات الإبداع السينمائي.
المأزق الأول كامنٌ في أن فيلماً كهذا موقّع من قبل مخرج قدّم روائع عدّة، وإن قليلة، للسينما: «حرب النار» (1981)، «اسم الوردة» (1986)، «الدبّ» (1988)، «العشيق» (1992). هذا قبل أن يبدأ مرحلة اشتغال عاديّ، أطلقه «سبعة أعوام في التيبت» (1997)، علماً أن «عدو على الأبواب» (2001) شكّل ترجمة متماسكة لمفردات أفلام الحروب المشوّقة. المأزق الثاني كامنٌ في أن الترويج الدعائي بدا أكبر من أن يستوعبه فيلمٌ عاديّ. المأزق الثالث كامنٌ في أن المُشاركة الإنتاجية القطرية، الوافدة إلى المشروع بفضل اتصالات المنتج التونسي طارق بن عمّار على ما يبدو، لم تنجح في دفع المخيّلة السينمائية لآنو إلى أبعد مما قدّمه. كأن المخيّلة المذكورة باتت شحيحة. كأن الجشع الماليّ والارتهان إلى سطوة النظرة الغربية المتعالية، التي افترضت أن هناك ولادة لعصر عربيّ إسلاميّ جديد، حالا دون تحقيق فيلم جدّي، يُفترض به (أي الفيلم الجدّي المطلوب) ألاّ ينسحق أمام سذاجة الادّعاء بأن «ذهب أسود» صورة عن إسلام متسامح وعصريّ (بحسب الموضة السياسية والفكرية الآنيّة)، ولا يتخبّط بين نصّ مرتجل (أو هكذا بدا، على الأقلّ)، وإخراج ركيك، وتمثيل مسطّح، وتغاض أحمق عن جمالية العناوين الناشئة من اكتشاف النفط، دينياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وتربوياً وإنسانياً وجغرافياً، في منطقة مُطالبة، حينها، بولوج عصر جديد، وهي مُكبّلة بتراث ديني حاد، وبسلوك حياتي متزمّت ومرتهن لنزاعات قبائلية عنيفة. المأزق الرابع كامنٌ في أن العناوين هذه كفيلة بإتاحة الفرصة المناسبة لإنجاز فيلم سينمائي بديع، على غرار «ستكون هناك دماء»، المرتكز على بعضها على الأقلّ، في حين أن فريق العمل الخاصّ بمشروع آنو لم يتعمّق في العناوين المذكورة، إما خوفاً من المسّ بالمحرّمات، وإما عجزاً عن فهم طبيعة الأرض والثقافة القبائلية والتراث الديني وطغيان التاريخ وغليان الجغرافيا، في البقعة العربية تلك، وإما هلعاً من مقاربة عميقة لعلاقة الدين الإسلامي بالتطوّرات الممكنة، في لحظة تاريخية لا مثيل لها.
هناك حيرة واضحة في فهم أسباب التسطيح الدرامي والسذاجة السينمائية الماثلين في «ذهب أسود»، الفيلم الذي توفّرت له إمكانيات مالية وتقنية ولوجستية أساسية. الفيلم الذي توفّرت له مادة درامية منبثقة من التاريخ والجغرافيا والصدام بين الدين والعلم. لكن الحيرة متوارية عندما يتمّ الانتباه إلى أن الخلل الفعلي حاضرٌ في النصّ السينمائي نفسه. أي أن المشكلة موجودة في النصّ بحدّ ذاته، لعجزه عن معاينة الحقائق والوقائع بمنطق سينمائيّ. لتهرّبه من كسر المحرّمات، أو لعجزه عن كسرها. لفراغه من اللغة السينمائية، كتابة ورسم شخصيات ومعالجة.
المشكلة موجودة أيضاً في الأداء العاديّ جداً للممثلين أنتونيو بانديراس وطارق رحيم الرائع في «نبي» (2009) جاك أوديار، ومارك سترونغ الحرفي في «مجموع الأكاذيب» (2008) لريدلي سكوت مثلاً، بينما حافظت فريدا بينتو، ذات الأداء العادي في «مليونير منازل الصفيح» (2008) لداني بويل و«ميرال» (2010) لجوليان شنايبل و«نهوض كوكب القرود» (2011) لروبرت وايت مثلاً، على النمط الأدائي نفسه في «ذهب أسود»: ارتكاز على نجومية باهتة صنعها لها «مليونير منازل الصفيح» من لا شيء.
الغربيّ الأميركي مكتشف النفط في الصحراء، جعل العلاقات المرتبكة بين العربيين السلطان نسيب (بانديراس) والأمير عمر (سترونغ) تزداد سوءاً. فالأول رجل أعمال لا يتوانى عن استخدام أية وسيلة ممكنة لتحقيق مصالحه. والثاني رجل كلمة وشرف، اعتبر الاكتشاف الجديد خراباً للجميع من دون استثناء. الكذب والخديعة ميزتا الأول، المحنّك سياسياً واللاأخلاقيّ أيضاً. التواضع والجرأة والكرامة سمات الثاني. صدام جعل الثاني يتخلّى عن ولديه «الأسيرين» لدى الأول. منذ ذلك الحين، بدأت التفاصيل: حب وصداقة وأخوّة وعلم ومعرفة وعنف إلخ.، ما أدّى إلى سيطرة الأمير عودة (رحيم) على الأرض والسلطة، بفضل العلم والحنكة المعرفية. مشاهد الحروب مثلاً مشغولة بحرفية عادية. والمرور على علاقة بالدين بالتربية المتزمّتة الآيلة إلى خوف جماعات مسلمة من الاكتشاف، ساذج وسطحي.
باختصار، هذا فيلم سبقته دعاية لا يستحقّها. دعاية جعلته في مصاف الأفلام الملحمية ذات الإنتاج الضخم. هذا صحيح جزئياً: مناخه العام مائل إلى نمط ملحميّ، في حين أن إنتاجه عاديّ قياساً إلى الميزانيات الهوليوودية الضخمة فعلاً. قيل إن «ذهبٌ أسود» ارتكز على ميزانية إنتاجية بلغت ستين مليون دولار أميركي. الصُور المعروضة على الشاشة الكبيرة تدفع إلى القول إن الميزانية تلك مصروفة على مشاهد التشويق والحروب واللقطات الواسعة. أما الخيال، فمنعدم. أما الحبكة المتينة، فغائبة. أما المعالجة الدرامية، فركيكة. أما التمثيل، فكارثة.
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد