«عاصمة الثقافة» تفشل في استقطاب الجمهور السوري
كان الفراغ هائلاً في الصالة الكبيرة في دار الاوبرا السورية، حيث أحيت المؤلفة والمغنية الاميركية المخضرمة مريديث مونك، حفلة مساء أول من أمس. ربما لو أقيمت الحفلة، في صالة الدراما الاصغر والاكثر حميمية، لكان الامر اقل مجازفة.
وقفت مونك الستينيّة الضئيلة الحجم، وحيدة أمام الميكروفون وسط المسرح، واضعة بجوارها كأس ماء. كل ما تعرفه غالبية الجمهور عنها، هو ما ينقله الملصق الترويجي لبرنامج الحفلة وما يرافقه من معلومات مقتضبة انها رائدة في ما يسمى بـ «تقنيات الصوت» والعروض المتعددة الفنون.
يلقبونها في بلدها بـ «ساحرة الصوت» وهي معروفة كأحد ألمع مؤلفي الموسيقى في أميركا. دأبها منذ أكثر من أربعين سنة، استكشاف الصوت وتوظيفه كأداة وكلغة فصيحة بحد ذاتها، ما يخدم استخراج المشاعر والطاقات والذكريات الحبيسة التي لا يمكن التعبير عنها.
وهذا التقديم، الى جانب ذكر الاسماء المهمة التي عملت معها، والجوائز، كفيل بتحفيز الجمهور على الحضور. لكنه يفقد طاقته المغناطيسية داخل الصالة، عندما تبدأ الحفلة.
وتختار مونك ان تبدأ بأداء فردي، لمقطوعات صوتية عدّة. معها مغنين آخرين سيشاركونها الأداء، وسيحضر لاحقاً «البيانو» والكمان، لكنها تختار أن تكون الاطلالة عبر صوتها وحده. البيانو ينتظر، وكذلك الكمان. واذا كان من ألفة مستحقة، مع الجمهور، فلتكن مع تلك الآلة البدائية، وغير الأليفة: الصوت.
الصوت لدى مونك آلة مستقلة. له سلّمه الموسيقي وعلاماته المميزة. تؤدي مقطوعاتها عن موضوعات تقدم نبذة عنها. تبدأ بـ «أغان من التل» (1977) التي ألفتها خلال تواجدها في صحراء تكساس. ويسقط معظم الجمهور في الذهول. ما هذا الذي تفعله، تصويت في تواتر من الصعب تلقف الايقاع فيه، يتذبذب من دون تنغيم. وبذلك تصير احالاته على الذاكرة، ومحاولة تلقيه عبرها، ضرب من ضروب النشاز، يجعل ذلك (الغناء) نشازاً بنشاز. هناك من حاول جاهدا كتم عدم تواصله اطلاقاً مع الصوت، وكتم ضحكه على ما يجري امامه، ظناً منه انها ربما فقط البداية! والمقطوعات التالية ستعدّل الوضع. لكن الامر طال على هذا النحو، ومن كتم ضحكته صار يطلقها ويثرثر استغراباً. بعد مقطوعات بدأ اليائسون، من أي متعة، بالمغادرة. ومن أحرجتهم المبادرة في الخروج، انتظروا الاستراحة بين جزئي الحفلة. ومع ذلك بقي الحضور معقولا، بالقياس مع جرعة الغرابة المركزة التي حضرت في أداء مونك.
فصوتها، ومقطوعاته، تستلزم ذاكرة بدائية للانسجام معه. ذاكرة المكان وأصواته، وكذلك، الاصوات التي نقلت انفعالات الانسان قبل ان توجد اللغة. يمكن مع حضورها التفكير بالانسان الاول فعلاً، كيف كان يغني ذاك المخلوق؟ ما هي الاصوات التي استخدمها لنقل انفعلاته، واحساسه بالشجر والماء، بالحنين والحب والحزن، مثلاً؟
تنقل مونك إحساسها بصوت مجرّد. إحساسها بذلك الشمال الكندي البارد، عندما تقدم اربع مقطوعات من تأليفها «مواجهة الشمال» (1990). مقطوعات تترجم تفاعلاتها مع الريح، و»ظلال طويلة». وفي مقطوعة اخرى، يشاركها أداءها ثيو بليكمان، يحاول الصوت، في تدرج تهدجاته، نقل جو «الاحساس بالدفء»، بعد ان كانت طلبت من الحضور اطلاق انفسهم مع الخيال، وان يتصوروا فقط بياض الثلج الفسيح، والبرد. وفي هذه المقطوعة، تعمد مونك الى اداء حركي مصاحب للصوتي. اداء بدائي بدوره، تعبيري، عن اناس يسعون لتدفئة اجسادهم، ولا يقارب اية زخارف جمالية.
في مقطوعات اخرى تنوع مونك في تقنيات الصوت. فمرة تستخدم وتراً في الفم، وتلعب عليه. ومرة أخرى تستخدم اللسان كآلة نقرية تصاحب التصويت. تلك المقطوعات بدت أقل غرابة.
وفي القسم الثاني من الحفلة حضر البيانو الذي عزفت عليه مرافقاً لصوتها. وحضرت ايضاً اصوات كاتي غايسنجر، واليسون سنيفن. صوت غايسنجر القوي، والجميل في تنوع طبقاته التي قاربت احياناً الصوت الاوبرالي، وحضور الآلات الموسيقية المصاحبة في الاداء الجماعي، جعل التفاعل اكثر امكاناً، وأقل اجهاداً للاذن. وبدا التدرج في التآلف مع برنامج الحفلة مقصوداً، من الاكثر غرابة الى الاقل، وصولا الى تقديم مقطوعات يتخللها كلام مغنى.
وفي كل المقطوعات لم ينحو الصوت الى الاستعراض، بل بقي مشدوداً الى تعبيراته ومقاماته الخاصة. قدمت مونك نفسها على هذا النحو الموغل في تجريدية الصوت الانساني، ليغدو آلة قابلة للتطويع.
وسيم إبراهيم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد