فرق الرقص السورية لم تتجاوز مراهقتها الفنية

11-01-2010

فرق الرقص السورية لم تتجاوز مراهقتها الفنية

بعد متابعة العديد من العروض العالمية التي استضافتها دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، مثل «نشيد الصباح الصغير» لجوزيف نادج، و«سولو» و«أفتاوشر» لهنرييتا هورن، و«باهوك» لأكرم خان، و«حوريات دونهوانغ» الصينية؛ إضافة إلى عروض مهرجان الرقص المعاصر الأول بدمشق، نتساءل اليوم لماذا تصر معظم فرق الرقص السورية على عدم تغيير رؤيتها لهذا الفن بكافة تقنياته وآلياته، أو التوغل أكثر في اختصاصاته وتشعباته؟ ولماذا هذا الاستنساخ للراقصين والعروض، وعدم القدرة على الابتكار؟ وما سبب البقاء في حيز التفكير السطحي بالجسد الراقص، لدرجة سجنه ضمن آليته المميتة، وبالتالي إلغاء شاعريته وسحره؟ لاسيما بعد تحوله من كونه نبعاً خصباً للدرامية، إلى مجرد مؤدٍ ميكانيكي لحركات ممجوجة، دون إعطاء أي أهمية تُذكر للرقص كأكثر لغة خالدة في العالم.

ولا ننكر هنا ما قام به بعض مصممي الرقص السوريين من عروض تنحو باتجاهات فهم حقيقي لأهمية هذا الفن وخصوصيته العالية، دون البقاء في سياق استيراد آليات هذا الفن وتجميعها محلياً، رغم كل الصعوبات التي يواجهها الرقص في سورية على اعتبار واقعه أكثر تعقيداً من واقع المسرح ككل، ابتداء من المشكلات التي يتحملها خريجو قسم الرقص التعبيري في المعهد, مروراً بالصعوبات التي يتعرض لها أي عمل راقص يريد أن يرى النور, و انتهاء بالآفاق الضيقة للمستقبل التي تواجهه هذه المهنة.
‏ تقول (مي سعيفان) مدير تجمع تنوين للرقص المعاصر: «رغم كل العثرات واللغط الذي يحصل فيما يتعلق بمفاهيم فن الرقص إلا أن الواقع مبشر جداَ. فكل بداية صعبة، و إذا ما قارنا بداياتنا هنا مع البدايات في أوروبا (مع الفروق الجوهرية في المحيط و الموروث) فإننا نرى أننا نقوم بما يسمّى حرق المراحل»، وبالاتجاه ذاته تعتقد (نورا مراد) مديرة فرقة (ليش): «أن الرقص يستحق عناية أكبر بكثير من التي يتلقاها, ليس فقط من الجهات المعنية, بل و بدرجة أكبر من الراقصين والكوريغراف أنفسهم، فأنا أراقب وأشاهد كل التجارب الراقصة على مسارحنا عن كثب وبحماس, و لكل تجربة ميزاتها كما لها أخطاؤها وعثراتها، وهذا شيء طبيعي خاصة مع قلة الإنتاج، لكنني بالعموم أجد أن الأمر يحتاج إلى ثقافة أعمق على صعيد التعامل مع عناصر العرض, ودقة أعلى في اختيار المواضيع. ‏

ورغم تفاؤل (سعيفان) خريجة ألمانيا وما تراه (مراد) التي تنحو في عروضها باتجاه طقوسيات حركية للجسد، كما تخرج عن الخشبة المألوفة وتستبدلها بأمكنة بديلة، إلا أن العناية الأكبر ينبغي أن تنصب أساساً على تثقيف الجمهور بهذا النوع الفني الجديد عليهم نسبياً، والعمل على تغيير نظرة الناس لهذا الفن، وما يفرضه ذلك من اطلاع مصممي الرقص على الكثير من التجارب العالمية التي ربطت فن الرقص بالشعوب، إضافة إلى ضرورة الاجتهاد والسعي الدائم للتعرف على آخر تيارات هذا الفن في العالم، وفي هذا يقول (علاء كريميد) مصمم رقصات فرقة (سمة): «للأسف؛ إننا في سورية لا نملك ثقافة بصرية بموضوع الرقص، فأنا أصمم الحركة لأشخاص صار لهم أكثر من أربعة عشر عاماً يدرسون الرقص، ومع ذلك هناك الكثير لا يميزونهم عن أشخاص لا علاقة لهم بالرقص وذلك فقط لوجودهم في فرق أخرى، وهذه أكبر مشكلة تواجهني كمصمم رقصات، خاصة أنه لا احترام لهذا الفن في سورية، رغم ما يحتاجه من تركيز ذهني عال وجهد عضلي كبير». ويوضح (كريميد) أن ما يسعى إليه عبر (سمة) هو أن يصبح التعامل مع الراقص أفضل مما هو عليه الآن، وأن يأخذ هذا النوع من الفن حقه، وأن ينال الراقص ما يوازي تعبه، والأهم من ذلك أن يرفع مستوى هذا الفن، يقول مصمم عرض (كريوغراف): «هناك تشويه لفن الرقص في سورية فكل شيء تقليدي، لذلك لا ينبغي تصدير فرق لا تفهم حقيقة هذا الفن باعتبارها ممثلة عن سورية، لأن من يرى عروضها سيعتقد أن سورية لا تملك هذا النوع من الفن، أو أنه مدمر كلياً، أضف إلى ذلك أنني أجد من المجحف جداً أن نطلق على بعض الفرق اسم «فرق مسرحية راقصة»، ويزيد عليها اسم فرقة أعراس، حيث إن اعتمادها الأول والأخير هو على الدبكة ورقص السماح». ‏

حالة «التسييح» التي يتحدث عنها (كريميد) بألم، لا تنسجم مع كون فن الرقص في سورية يندرج ضمن كونه تجربة فنية تحمل مشروعاً ثقافياً يحتاج إلى بحث جدي في عناصر هذا الفن، حيث إن هناك تكرارات لمواضيع مختلفة بالأسلوب ذاته، دون أي جديد يضيف شيئاً لهذا الفن، وفي هذا الإطار تعتقد (مراد) أن حالة السياحة لا تخص فن الرقص فقط, وتقول: «إن أساليب العمل التي تقدمها بعض الفرق كإنانا وأورنينا مثلاً، بات لها جاذبيتها بالنسبة للجمهور, وليس في الأمر مشكلة, لاسيما أن هذا الواقع يمكن أن يكون دافعاً للبحث في أساليب فنية تقدمها الفرق الأخرى وتكرسها»، وتتابع صاحبة عرض (ألف مبروك): «إن المزيد من العمل وإنتاج عروض راقصة بعيدةً عن السياحية, سيغير نظرة الجمهور لهذا الفن». ‏

أي أن (مراد) تجعل الحل منوطاً بصناع العمل وتصميمهم على الاستمرار, وقدرتهم على تحليل تجاربهم وتجاوز أخطائهم في تجاربهم المقبلة، وتعلل ذلك بأن «السياحية لا تأتي من خارجنا, ونحن سببها، وإن تقديم أعمالنا بمستوى فني عالٍ، سيجعل تلك الفرق السياحية ليست ذات أهمية، حتى لو توفرت لها كل المستلزمات الإنتاجية»، وتوافق (مي سعيفان) مؤسسة تجمع تنوين للرقص المعاصر على هذا الرأي فهي ترى أن «تسييح الرقص» ما هو خطوة أولى في إيصال مفهوم صحيح عن الرقص إلى عامة الناس وتقول: «هذه الأعمال السياحية الراقصة إن صحت تسميتها سهلة، مبهرة، وقريبة لثقافة النسبة الأكبر في المجمع من حيث الموسيقا ونمط الأداء، أي أنها تترجم تماماً توقعات الأغلبية العظمى من الجمهور» وتضيف: «أعتقد أن لهذا النمط دور كبير في تغيير الرأي العام و النظرة المسبقة حول الرقص، و فهم الفرق بين الراقصة و(الرقاصة) ولا أرى أن المستوى الفني لهذه العروض ضعيف إنما بسيط، لكن يجب دعم المحاولات الأكثر جديةً و عمقاً، على الأقل بالقدر نفسه الذي تدعم به الفرق الشعبية، لأن هذه المحاولات هي بدايات حقيقية لفن يحتل مكانة مرموقة جداً على الصعيد العالمي، فالمسرح الراقص هو الأقدر على محاكاة الواقع و التفاصيل، و بالتالي الأقدر على محاكاة روح المتفرج قبل حاسة البصر لديه». ‏

إن سبب الاستمرارية التي حققتها بعض الفرق يعود إلى عدم وجود من ينافسهم في بداياتهم، وبالتالي استطاعوا أن يكونوا أرضية مادية قوية، يفرضون عبرها استمراريتهم، وهذا ما جعل (جهاد مفلح) مؤسس فرقة «إنانا» ينفي وجود أي فرقة مسرح راقص في سورية ما لم يتوافر لديها انتشار إنانا نفسه، وعدد الراقصين نفسه، والإمكانيات ذاتها، يقول (مفلح): «إنانا فرقة رائدة وهي لم توجد لتنافس أحداً، فنحن موجودون أساساً في الساحة السورية والعربية، والتنافس الحقيقي هو وجودنا في العالم، وهذا ما حققناه في قرطاج أمام عشرين فرقة عالمية، أو عرضنا بمهرجان تورنتو» ويضيف: «نحن فرقة اتخذت لنفسها طريقاً صعباً، لكنها أثبتت نفسها فيه، ونركز في عملنا على الباليه الشرقي بما يعنيه من كونه مسرحاً شاملاً في الديكور والإكسسوارات والأزياء والحركات التمثيلية، وما أعنيه أننا استطعنا أن نخط هوية لنا ولعروضنا، وهذا ما أتمناه لبقية الفرق السورية، لكن إن قدمت فرقتي عرض «هواجس الشام» وبعد فترة انسحب بعض الراقصين من الفرقة وقدموا عرضاً مشابهاً له، مع تغيير الاسم، هنا لا أستطيع القول إن هذه فرقة رقص أصلاً». ‏

من هنا نجد أن تعارض المذاهب ليس سلبياً، بل هو فرصة لاكتشافات جديدة في ميدان الحركة وابتكار أساليب جديدة للتعبير عن الموضوعات المختلفة، ضمن خصوصية في المفردات، تنسجم مع روح الموضوع عبر صيرورته الحركية، ومع مشاهدين سيكملون هذه العملية الإبداعية، لاسيما أن جزءاً من الرقص ومعناه متروك لهم. ‏

لكن العائق الأكبر في وجه تطور فرق الرقص السورية هو اعتماد معظمها على رؤية خاطئة تعلي من شأن البهرجة السينوغرافية وتجعل الراقص بمثابة كومبارس لا أكثر، أو التركيز على العروض من وجهة نظر تهتم بالفولكلور وتصنيفاته المختلفة دون أي قدرة على جعله معاصراً. وبالتالي فإن تلك الفرق باتت بمجملها ضائعة في تيارات فن الرقص ومذاهبه الحركية الذي بات يوصف جمالياً بأنه ليس محاربة للجاذبية وإنما تكريس لها وتوظيف الحركة في خدمتها، مما يجعل الرقص في سورية في مرحلة ما قبل النضوج أي أنها لم تتجاوز بعد سن المراهقة ‏الفنية. ‏

بديع منير صنيج

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...