«عربة اسمها رغبة» لويليامز: المبدع حائراً تجاه حلم «يتكوبس»
تقع حقبة نشاط تنيسي ويليامز في مجال الكتابة المسرحية، زمنياً، بين زمني يوجين اونيل وآرثر ميلر. وهذان يشكلان معه الثلاثي الذي اعتبر دائماً القاعدة الأساسية للمسرح الواقعي الأميركي في القرن العشرين. صحيح ان هذه القاعدة تضم اسماء اخرى لكتاب لا يقل بعضهم مكانة وشهرة عن ويليامز وميلر وأونيل، غير ان هذا الثلاثي اعتبر دائماً على حدة، واعتبر دائماً خير معبر عن حيرة المبدعين الأصيلين تجاه ذلك الحلم الأميركي الشهير الذي ما فتئ منذ قرنين من الزمن - على الأقل - يملأ الدنيا ويشغل الناس، ويتحول في غفلة عنهم الى كابوس أحياناً. وقد يكون من الصعب المفاضلة بين اعضاء هذا الثلاثي، طالما ان لكل واحد مميزاته وعوالمه الخاصة... ومع هذا لن يغيب عن ملاحظة من يقوم بالمقارنة بين اعمالهم، ان ويليامز هو الأكثر تعبيراً عن العنف الداخلي وعن خيبات الأمل... ثم بخاصة عن ذلك الصراع الأبدي بين رغبات المرء وواقعه، ناهيك بكونه الأكثر توقفاً عند الصراعات بين الأفراد، حين تتخذ هذه الصراعات في ظاهرها سمات قد لا تكون هي، بالضرورة، سماتها الحقيقية. ومن هنا يأتي مسرح ويليامز عادة ليضع الإصبع بقسوة وصراحة على حقيقة تلك الصراعات الخفية.
> وهذا ما يجعل متفرج مسرحيات ويليامز او قارئها يشعر ان المؤلف يوقفه دائماً على حبل مشدود، إزاء شخصيات تملأ هشاشتها الخشبة. ومن المؤكد ان هذا التوصيف الذي يكاد يشمل معظم اعمال تنيسي ويليامز، ينطبق بخاصة على اثنتين من اولى مسرحياته التي اوصلت شهرته الى ذروتها اواسط سنوات الأربعين من القرن العشرين: «الحيوانات الزجاجية»، و «عربة اسمها رغبة». ونتوقف هنا عند هذه المسرحية الأخيرة، طالما ان فيلم بيدرو المودوفار «كل شيء عن امي» اعادها الى واجهة الحياة الفنية قبل نحو عقد من السنين اذ قدم لها تحية حارة. ثم اتى بعد ذلك بسنوات، رحيل الممثل الكبير مارلون براندو، ليعيد الحديث اكثر وأكثر عن تلك المسرحية التي كانت علامة بداياته الأساسية، مسرحاً وفناً سابعاً.
> كتب تنيسي ويليامز مسرحية «عربة اسمها رغبة» في العام 1947، بعد ثلاث سنوات من النجاح الكبير الذي حققته مسرحية «الحيوانات الزجاجية» حين قدمت للمرة الأولى... وكان نجاحاً جماهيرياً ونقديا، اذ إن «الحيوانات الزجاجية» أُعطيت جائزة حلقة نقاد الدراما في نيويورك التي كانت تعتبر من اهم جوائز الكتابة المسرحية في ذلك الحين. صحيح ان «عربة اسمها رغبة» فازت بدورها بجوائز عدة، بما فيها اول جائزة «بوليتزر» نالها ويليامز، لكن نجاحها الجماهيري لم يواز نجاحها النقدي. وكان على المسرحية التي أخرجها ايليا كازان للمسرح، ان تنتظر تحوّلها الى فيلم على يد كازان نفسه، وفي الحالين من بطولة الفتى الناشئ مارلون براندو، قبل ان تصبح على كل شفة ولسان، وتدخل شخصيتاها الرئيستان «بلانش دوبوا» و «ستانلي كوالسكي» رواق الشخصيات الأدبية الكبرى في القرن العشرين. المهم ان المسرحية راحت تعرف طريقها الى الشهرة والتأثير بالتدريج، حتى صارت ما هي عليه اليوم: احد اشهر النصوص الأميركية ومن اكثرها عنفاً داخلياً وصدقاً، ومن اشدها تعبيراً عن ذلك الرعب الداخلي الذي تعيشه الشخصية الأساسية بلانش، اذ تكتشف ان الصراعات الحقيقية موجودة في داخلها، وأن موقفها الرافض ظاهرياً لحيوانية صهرها كوالسكي، انما هو ناتج من شعور في داخلها مبهم، لكنه يرعبها ويكاد يدمر هشاشتها... وحياتها بالتالي.
> ولكي لا نستبق الأمور، نعود الى بداية المسرحية، حيث تطالعنا الفتاة الأرستقراطية الحسناء بلانش دوبوا، وهي تصل بعربة ترام في نيو اورليانز، هي عربة حقيقية ورمزية في آن معاً، ومن هنا ازدواجية دلالة اسمها «رغبة». وبلانش تصل هنا لكي تقيم فترة من الزمن في منزل شقيقتها ستيلا المتزوجة من ستانلي كوالسكي... ومنذ البداية تلوح لنا بلانش فتاة ارستقراطية وديعة لطيفة تحاول ان تقبل الدنيا كما هي من دون احتجاج ومن دون تمرد. والحال اننا سرعان ما سنكتشف ان هذا كله ليس إلا في ظاهر الأمور... إذ إن بلانش نفسها لا تعرف في الحقيقة ان في داخلها روحاً متفجرة متمردة قلقة وأدنى الى ان تكون ممزقة. وأن سمات الهدوء والوداعة التي تظهرها، إنما هي في حقيقة الأمر، صورة الهدنة التي اقامتها مع نفسها، ضمنياً. اما العامل الذي يفجّر هذا كله، ويكشف الى العلن تمزق بلانش دوبوا الداخلي، فهو ستانلي كوالسكي. فمنذ البداية يلوح لنا هذا الشخص العادي، وابن الشعب - في مقابل ارستقراطية بلانش - يلوح لنا فاسقاً حيوانياً، شبقاً، لا يراعي حرمة ولا يحترم اي ميثاق اجتماعي. وهكذا اذ يبدأ الصراع بين طبيعة كوالسكي و «طبيعة» بلانش، يخيل الى هذه اول الأمر ان التناقض بين الطبيعتين هو ما ينفرها من صهرها... غير ان مفاجأتها - الداخلية - الكبرى تكون حين تكتشف في اعماقها، انها - هي - في حقيقتها، تكاد تكون صورة خفية لكوالسكي نفسه. انها تشبهه، وفي اعماقها شبق جنسي حيواني لا يقل حجماً عما لديه. ومن هنا يتحول نفورها منه، الى رغبة فيه، ويتحول الصراع من صراع بينها وبين كوالسكي، الى صراع في داخلها.
> ذات لحظة تحاول بلانش ان «تنقذ» روحها بإغراء ميتش، صديق ستانلي كوالسكي ورفيقه في لعب «البوكر» لكي يتزوج بها... وفي البداية ينجح الإغراء، ولا سيما حين تجتذب بلانش ميتش بصراحتها، إذ تخبره عن الوحدة التي تعيشها منذ انتحر زوجها السابق حين اكتشفت انه مثليّ الجنس، وجابهته باكتشافها حقيقته. وهنا يقول لها ميتش انه هو بدوره يخشى الوحدة، ولا يريد ان يعيشها، وأن خشيته منها تزداد حدة في هذه الأيام، اذ إن امه التي يعيش معها، مريضة وتوشك على الرحيل. وهكذا، يسري تيار التفاهم بين الاثنين ويعرض ميتش الزواج على بلانش بالفعل... وتبدو الأمور وكأنها تسير في درب طبيعية. ولكن هنا يأتي تدخل ستانلي كوالسكي، الذي لم يرد ان تعيش بلانش اية سعادة مع ميتش طالما انه هو ايضاً يشعر، ومنذ البداية، بانجذاب جنسي نحوها. وهكذا ينتحي ستانلي بميتش جانباً ليخبره ان بلانش لم تأت الى نيو اورليانز إلا بعد ان أجبرت على مبارحة مسقطها في ميسيسيبي إثر ما اتهمت به هناك من فجور وإدمان على الكحول. وهنا اذ تكون ستيلا، زوجة كوالسكي وشقيقه بلانش على وشك الوضع، تذهب الى المستشفى في الوقت الذي تجابه به زوجها مدينة قسوته وموقفه. وإزاء تلك المجابهة يبدو على ستانلي شيء من اللين، ويزور زوجته في المستشفى. اما في البيت، فإن ميتش يلاقي بلانش ليلومها بعنف على كذبها عليه. ثم يحاول، وقد ثمل، أن يغتصبها. وإذ يعود ستانلي الى البيت يكتشف ان بلانش قد ارتدت ملابس غريبة وتغني مدعية انها مدعوة الى رحلة... وهنا ينفجر عداء ستانلي لبلانش، رغبة جنسية تملي عليه اغتصابها، من دون ان ندري حقاً ما اذا كانت هي تقاوم او تدعي المقاومة. وبعد اسابيع اذ تبدو بلانش وقد جنت تماماً، يتم نقلها من منزل أختها الى مصح للأمراض العقلية.
> من الواضح هنا ان تنيسي ويليامز (1911 - 1983) الذي كان حين كتابة هذه المسرحية، في السادسة والثلاثين وقد بلغ اوج نضجه، قد حاول ان يعبّر من خلالها عن تلك الصراعات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية التي كان مجتمع الجنوب الأميركي - الذي يعرفه جيداً - يعيشها. كان كمن يقدّم، عبر مسرحيته، مرآة تشاهد فيها قطاعات من الناس دواخلها... بل كان من الواضح ان ستانلي كوالسكي ليس هنا سوى المرآة التي كشفت لبلانش حقيقة ما يدور في داخلها. ومن هنا، فإن «جنونها» في آخر المسرحية انما كان سببه اكتشافها حقيقة داخلها، اكثر من اكتشافها عنف العالم الخارجي وقسوته. والحال ان هذا انما يلخص هواجس سيطرت على ويليامز في معظم اعماله، ولا سيما في مسرحياته الدرامية مثل «الحيوانات الزجاجية» (1944) و «صيف ودخان» (1947) و «معركة الملائكة» (التي اعاد كتابتها بعنوان «هبوط اورفيوس») و «قطة على سطح ساخن» (1955) و «فجأة في الصيف الماضي» (1958) و «طائر الشباب الجميل» (1959) وغيرها من اعمال تعتبر علامات في تاريخ المسرح الأميركي.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد