«نبي» جاك أوديار: رسول أمي لأبناء المهاجرين

12-03-2010

«نبي» جاك أوديار: رسول أمي لأبناء المهاجرين

بعد أكثر من ستة اشهر على صدوره التجاري في الصالات، لا يزال فيلم «نبي» لجاك أوديار محط الأنظار في فرنسا التي دللته، بجمهورها ونقادها، دلالا لم تحصل عليه إلا قلة من الأفلام الفرنسية في السنوات الأخيرة. فرغم ان النجاح في مهرجان كان 2009 جاء دون الطموح (جائزة النقاد)، فالحقيقة ان «كان» لم يشكل إلا بداية لسلسلة تتويجات سيحصل عليها «نبي»، من جائزة مهرجان لندن، الى جائزة لويس دولوك ـ الملقبة بـ«غونكور السينما» ـ لأفضل فيلم فرنسي للسنة، الى جائزة افضل ممثل اوروبي 2009 من الأكاديمية الأوروبية للأفلام لطاهر رحيم في دور مالك. أخيراً، وبينما العيون على نتائج «أوسكار» التي أعلن عن فائزيها في 7 آذار، فقد التهم نبي أوديار للتو تسعة من جوائز السيزار مساء 27 شباط، بدأت بسيزار افضل فيلم، وانتهت بالديكور...

يقول أوديار الذي اقتبس السيناريو عن حكاية اقترحها عليه ابن ضواحي ليل (شمال فرنسا) عبد الرؤوف ظافري، انه لم ير في القصة فيلما عن الإجرام في السجون، بقدر ما رآها مجازاً للحياة في فرنسا ذات التعددية الاثنية والثقافية والتي، كما تتنوع فيها اشكال الصراع على السلطة والنفوذ والثراء، تتصارع في هوامشها كائنات بشرية تبحث عن البقاء.

هكذا تبدأ حكاية «نبي» بدخول مالك الجبنة ذي الثمانية عشر عاما السجن المركزي محكوما بستة اعوام. الشاب الفرنسي ذو الأصول العربية، الأمي، لا يتقن مهنة وليس له أهل ولا اصدقاء ولا هوية، في حالة من عذرية متعمدة لن تطول، حيث سيضطر الشاب سريعا، في الحصن المكتظ بالشرطة، الى الضرب للحفاظ على حذائه، ثم الى القتل المأجور بشفرة حلاقة، حفاظا على حياته، لتضمه بعدها المافيا الكورسيكية تحت جناحها، والتي ستعلمه ملازمة زعيمها (البارع نيل أرستروب ـ سيزار افضل دور ثانوي) الذي يتفنن في إذلاله كأب سادي، دروساً في الميكافيلية والتحالفات والمراوغة والقسوة، ستفتح عينيه على عالم الجريمة ومنه على الحياة، وستقوده الى خلاص يجعله زعيما موحداً لأبناء جلدته من المهاجرين السجناء.

في هذا التماس بين نقاوة الفتى الهامشي وعنف الحياة التي لا مكان فيها للهشاشة، يتجنب أوديار تحويل حكايته الى اهجية للظلم او الى مرثية للبراءة، ويختار الخلاص بأن «يرسل من الأميين نبيّاً»، لا يكتفي بأن يجعل له رؤى في نومه تخبره بما سيحصل، بل يحول قتيله الاول الى ملاك سيرافقه طوال الفيلم وسيوحي له... تارة سينتظره مالك «متدثراً» في سريره، وطوراً «سيفتر» وحيه عنه أثناء عزلته في الزنزانة الانفرادية ذات الفتحة السماوية... وسيهمس له يوما أن «اقرأ»!.

هل ينزلق أوديار هنا الى تناول النبي محمد وهي الآن موضة سيئة الصيت؟ لا شك ان السينمائي (ابن السينمائي)، الذي طرح بخمسة افلام فقط بصمة يصعب ان تخطئ العين نسبتها إليه، لا يحتاج الى شهرة تحصد باستفزاز خفيف على طريقة كاريكاتيرات 2006. ماذا يبقى اذن من مؤسس الإسلام في التقاطعات، الكثيرة والمدروسة بعناية، بين ومضات من سيرته الشخصية والدينية وسيرة السجين مالك الجبنة؟ ربما لا يبقى إلا الشغف امام قصة رجل قديم، فيما هو يخاطب السماء وتخاطبه، يلقي بأحلامه أبعد من أسوار الرمل حوله ويصعد، بصبر، نبياً سيغير وجه التاريخ من حيث لم ينتظر احد: من شعاب مكة القاسية التي كانت تمور في أواسط القرن السابع الميلادي على هامش امبراطوريات متخمة ستنكسر على أيدي ابنائها. هو شغف قد يشي التواطؤ بين أوديار وشخصيته، في النظرة الكاريزماتية التي التقطها وكرّسها في وجه طاهر رحيم، والتي تجمع الطفل المندهش المتألم اللطيف، الى المراهق الحالم واللاهي بألعاب اكبر من غضاضته، الى الرجل المتحدي القلق، المنتظر دائماً حدوث شيء ما، الطموح والقاسي. تلك التيمات حرص المخرج على جعلها تتقاطع في اللقطات القريبة الكثيرة لوجه مالك الجبنة، والتي يختلط فيها قلقه بعفويته بمودته بندبات خده او بالدم، ينزفه او ينتثر عليه من أجساد قتلاه.

لا يحمل «نبي» اذن دروساً ميتافيزيقية ولا اخلاقية: ما الأنبياء «إلا بشر» يحبون الحياة. والنقاء لا ينفي القتل. والعكس صحيح. والصحيح، حيث كان الظلم، يمسي نسبياً، طالما ان الـخروج من الذل، دائماً، اكثر نبلاً من الذل.

بعد خيبة مهرجان كان، سارع نقاد الى التنبؤ بأن شخصية مالك الجبنة ستصبح واحدة من نقاط العلام في سينما الإجرام في القرن الجديد، وتحمّس اخرون لـ«أفضل فيلم سجون فرنسي» بالمطلق، وحيا غيرهم الشجاعة التي تفضح من دون مهادنة فساد السجون الفرنسية، فيما تنبأ كثيرون، ولم يكن ذلك صعباً، بمستقبل لامع للشاب طاهر رحيم الذي بات نجماً بثماني وعشرين سنة، وفيلم طويل واحد وكومة جوائز. ولم تمنع خيبة من كان تنبأ بـ«بتتويج تاريخي» يتجاوز العشرة سيزارات، مذكراً بـ«المترو الأخير» لتروفو (1981) و«سيرانو دو بيرجوراك» لرابنو (1991)، لم تمنعهم من مواصلة التنبؤ بأوسكار افضل فيلم اجنبي بعد اسبوع في الولايات المتحدة...

لكن ضمن سباق النبوءات ذلك والاتفاق على الإعجاب بعمل لم تنته نجاحاته بعد، فإن مجاز نبوءة أوديار، الأكثر اهمية في فيلمه، والأكثر التصاقاً بسياقه، يظل مثيراً للجدل: من بين اولئك البشر، الكثر، المتشابهون بتعاستهم، الذين يتحركون في فوضى الهوامش، من جيل ابناء المهاجرين الى فرنسا التي، بعد ان طحنت آباءهم العمال في المصانع وورشات البناء، بعثرت الأولاد في شوارع الضواحي وعلى أدراج المراكز التجارية، من هؤلاء قد يخرج ولد أمي او يكاد، يتيم او يكاد، نقي نقاوة الاطفال، شرس شراسة المحرومين، لا يملك ما يخسر، يدرك ما حل به وترسم له رؤاه اياماً ناعمة يمد بصره إليها من نوافذ ضيقة، قد يأتي هذا الولد ويوحد «قبائل المجرمين» ويصنع «أمته» من حطام الهوامش وقبضات الزعران، من حيث لا تتوقع فرنسا المطمئنة الى حريتها وعدالتها وأخوّتها، القريبة من المجاز بدورها. مقولة ثقيلة الظل ولا شك بالنسبة لعرابي «الهوية الوطنية»، لا تزال تتجنبها الصحافة الثقافية الفرنسية. وهي نبوءة ثقيلة الوزن، قد لا يحتملها فيلم واحد، ربما سيصفق لها كثيراً بعد حين، او ربما سيقال انه اخطأ بمرجعيته، إذ لم يقاطع نصه، بالأحرى، مع سيرة نبي آخر: مسيلمة الخاسر، الشهير بالكذاب.

إياس محسن حسن

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...