أدونيس مقدماً صديقه الفائز (توماس ترانسترومر): حضور في أحضان الكون
- 1 -
إذا كانت الصورة «فجر الكلام»، كما يقول باشلار، فإننا نجد هذا الفجر في شعر توماس ترانسترومر. ولئن كان التعبير الحي يرتبط بالقدرة على إبداع الصور، فإننا نجد كذلك في هذا الشعر مثالاً فريداً عن هذا التعبير.
- 2 -
المجاز مقترناً بالايجاز،
والحداثة، موصولةً بالكلاسيكية،
والغريب، نابعاً من الأليف:
تلك هي ثنائيات في شعر توماس ترانسترومر، أعدها مفاتيح أساسية للدخول الى عالمه الشعري، وللإحاطة به، فقلما اجتمع الإيجاز والمجاز عند شاعرٍ كما يجتمعان عنده. وقلما نرى هذا الاقتران العضوي بين التأصل في الصرامة الكلاسيكية، والانفتاح الأصيل على لغة الحداثة، رؤيةً وكتابةً، كما نرى في شعره. وفي هذا كله، يبدو الأليف غريباً كأنه يخلق للمرة الأولى. ويبدو الغريب أليفاً، كما لو أنه يولد أمام أعيننا، وبين أحضاننا.
- 3 -
الطبيعة، الجذر، الشجر، العشب، البحر، الغيم، المطر، الثلج، الحجر، الطير... الخ، أشياء الحياة اليومية، من أبسطها الى أكثرها تعقيداً، الأشياء التي أدى العلم والتقنية الى ابتكارها واستخدامها: هذه كلها، هي مادة الشاعر - اضافةً الى عوالم الأنا الداخلية، عوالم الشعور والمخيلة، القلق والبحث والتساؤل.
يختبر هذا كله، يعيد النظر فيه، ويمنحه شكلاً آخر ومعنىً آخر. بحسٍ زمنيٍ تمتزج فيه الأزمنة، ويمتزج فيه الواقع بالمخيّلة. وبحسٍ تاريخيٍ، أفقيٍ وعموديٍ، وبنبرة تبدو كأنها إيقاع اللحظات التي نعيشها يومياً.
- 4 -
يتبطن الحس الشعري عند ترانسترومر حساً علميـاً. فيما نـقـرؤه، نـكتـشف أن العـلم في شعره نوعٌ من الجمالية اللامرئية، تواكب خفيةً جمالية الشعر المرئية. وفيما نقرؤه في حركيته المجازية، نتبين كيف أن الواقع يبدو كأنه ليس هو الذي «يخلق» الشعر، بل إن الشعر هو الذي «يخلق» الواقع. ويـتـجلى لنـا كيـف أن الواقع لا يبدو إلا متحـركاً، كأنما هـو حـالات متتابعة، كما لو أنه يتكون في رؤيةٍ متحولة خياليةٍ مجازية. ويخيل الينا ان اللغة - المجاز، أو اللغة - الصورة، هي، في آنٍ، بيت الواقع، وبيت الإنسان، وبيت العالم. وأن اللغة نفسها «تواقة للتغيير». وفقاً لتعبير ميرلو بونتي. وأن المجاز ليس مجرد خرقٍ للعادة، وانما هو كذلك خرقٌ للنظام القائم، نظام العلاقات بين اللغة والأشياء.
يمكن القول، في هذا المنظور، إن شعر ترانسترومر قراءةٌ «علميةٌ» لشعرية العالم أو «لروحه» وقراءةٌ شعرية لعلمية العالم، أو «لمادته». وهي قراءة تتم على الحد الذي يفصل ويجمع في آن: الأشياء التي يتعذر التعبير عنها من جهة، ولا يمكن الصمت عنها من جهة ثانية، كما يعبر، أي بين القول المستحيل والصمت المستحيل.
في هذا كله، لا يفارقنا الشعور بأن الشعر والعلم غير قادرين على «إدخال» الشيء في الكلمة. فلا يدخل في الكلمة غير الظاهر، والعرضي العابر. أما «الجوهر» فيظل عصياً وغامضاً. ومن هنا أهمية الحساسية «الصوفية» الخفية في شعره. من هنا كذلك، نفهم الحس الذي تقوم عليه جملته الشعرية: الكثافة والشفافة في آن.
- 5 -
للقصيدة عند توماس ترانسترومر حضورٌ واقعيٌ يُلمس فيه نبض الأشياء بتفاصيلها، ومجازي يتحول فيه الواقع الى مخيلة. كل قصيدة لوحة: ظاهرها مركبٌ مضيءٌ من جزيئات الحياة اليومية، وباطنها إشعاعات وإشارات وتخيلات.
انه حضورٌ يضع القارئ مباشرة في أحضان الكون. الكون مصغرٌ واقعيٌ في جسد القصيدة، أو هو نفس مبثوث فيها. انه حضور يجعل القارئ حاضراً هو كذلك، داخل ذاته، وفي الكون.
وليس هذا مجرد حضورٍ فكري. انه كذلك وقبله، حضورٌ جمالي، تُفصح عنه العلاقات المفاجئة التي يقيمها بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والواقع، والتي تبث في القصيدة الحيوية والإشعاع. هكذا نشعر أن المسافة التي تفصل الذاتية عن الشيء، أو التي تصل بينهما، هي نفسها المسافة التي يتعانق فيها الأنا والآخر، بطريقة تتحول فيها هذه المسافة نفسها الى معانقةٍ تغيب فيها الحدود والمسافات.
- 6 -
يبدو الواقع الكوني في شعر ترانسترومر مرتبطاً بحياته اليومية، حاضراً في تجربته الكتابية والجمالية. ومع أن القضايا التي يلامسها أو يثيرها في شعره غير تجريدية، بل واقعية، فإنها منفصلة، جذرياً، عن ابتذالية الالتزام السياسي الإيديولوجي. أنها مأخوذةٌ بواقعية الإنسان في كينونته. والبشر في هذه القضايا هم بشر الحياة اليومية. لا يتزينون بالسياسة، ولا يزينونها. لا يرفعون بيارق النضال، ولا يهزجون لأساطيره. انهم بشر البيوت والشوارع. بشرُ العمل، والتأمل، والعزلة. بشر الوجود بآلامه كلها، وعذاباته كلها، وأفراحه كلها. ونُسغ التساؤل والحيرة والقلق متدفقٌ في شعره. ذلك أن النظر الى واقع العالم، وواقع البشر لا يمكن، إذا كان عميقاً وحقيقياً إلا أن يجري فيه هذا النسغ المأساوي أو التراجيدي.
وإذ عرف توماس ترانسترومر كيف يصون شعره من الابتذال السياسي - الإيديولوجي، فلأنه كان يدرك أن الشعر يفقد أعمق ما فيه عندما تصبح الغاية منه إيصاله أو نقله الى الجمهور. فعندما يختلط أو يتوحد الشعر بالحدثي العابر، أو عندما يتحول المُبتذل الى وسيلة لتسليط الضوء على الشعر ومنحه الشهرة، فإن الشعر هو نفسه يصبح مبتذلاً. الشعر نفسه هو الضوء، وهو في ذاته الإضاءة. وهو، إذاً، يحتاجُ بالأحرى، الى الظل، ويحتاج، خصوصاً، الى الإقامة في الليل، ليل الحاسة، والمادة، واللامرئي. ولا يعني هذا، في أية حال، انفصاله عن الحياة، وانسلاخه من قدرته على التأثير في التاريخ. وإنما يعني، على العكس، انفصاله عن السائد، فكراً وعملاً، خصوصاً أن العمل، اليوم، يُمليه ويحركه فكر زائف يتمثل في الإعلام والدعاوة، وأن التاريخ السائد مجرد أحداثٍ عابرة، بفعل وسائل الإعلام ذاتها.
- 7 -
يحاول ترانسترومر أن يقول في شعره وضعه الإنساني، وأن يقدم هذا الشعر بوصفه فناً يُفصح عن هذا الوضع. ولئن كانت جذوره الشعرية منغرسة في أرض الشعر، في أصوله الكلاسيكية والغنائية والرمزية، فإنه في الوقت نفسه ينخرط في حركية الحداثة، واقفاً على عتبة المستقبل. وهو في ذلك لا يُصنف، ولا يؤسس في مدرسة. انه، في آن، واحدٌ ومتعددٌ. وفي هذا ما يتيح لنا أن نرى في شعره كيف أن المرئي واللامرئي تركيبٌ واحدٌ تنبعث منه ذات الشاعر، كأنها عطرٌ يفوحُ من وردة العالم.
* هذا النص قدم به أدونيس «ترجمة الأعمال الشعرية الكاملة» لتوماس ترانسترومر الصادرة عام 2005 عن دار بدايات في دمشق
سيرة
ولد توماس ترانسترومر في الخامس عشر من نيسان (ابريل) 1931 في العاصمة السويدية استوكهولم، وهو النجل الوحيد للصحافي والمصور يوستا، والمدرّسة هلمي ترانسترومر.
انفصل والداه وهو طفل. وترعرع في كنف والدته في منطقة سودور وسط استوكهولم ضمن بيئة اجتماعية تنتمي الى الطبقة الوسطى بالقرب من سكن جده لوالدته، كارل هلمر فستربرغ البحار، الذي يقول عنه توماس انه كان «من أفضل أصدقائي»، فقد كان الأب الروحي لتوماس. وكان يتقن اللغة السويدية الفصحى التي تركت أثراً كبيراً في أشعار توماس.
كان رفاقه في المدرسة يحرصون على عدم المساس بمشاعره كونه «بلا أب» فوالد توماس كان يلتقيه مرة كل عام، في ليلة عيد الميلاد.
باكراً أبدى توماس عشقه للشعر والموسيقى وبدأ خلال دراسته في ثانوية سودرا لاتين الشهيرة كتابة الشعر.
لم يكن في يوم من الأيام متديناً ولكنه في الثالثة والعشرين من العمر باشر دراسة تاريخ الأديان وتاريخ الأدب وعلم النفس في جامعة استوكهولم التي تخرج فيها سنة 1956.
وفي مطلع 1960 عمل طبيباً نفسانياً في سجن روكستونا للقاصرين واستمر في المهنة ذاتها عند انتقال العائلة سنة 1965 الى مدينة فستروس حيث توظف في معهد سوق العمل. في الثامن والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 أصيب توماس بشلل نصفي بسبب جلطة دماغية أفقدته القدرة على النطق. ولكن هذه الأزمة لم تمنعه من الاستمرار في كتابة الشعر بل تغلب عليها وأصدر عدة أعمال شعرية.
حاز توماس العشرات من الجوائز الأدبية العالمية.
قصائد من «الأعمال الشعرية الكاملة»
إزمير في الساعة الثالثة
قبل الشارع المقبل المقفر،
متسولان، الأول بلا ساقين
يحمله الثاني على ظهره.
وقفا –كمثل حيوان على الطريق في منتصف الليل يحدق مبهوراً بأضواء سيارة-
وبعد لحظة أكملا طريقهما
وعبرا الشارع بسرعة
كمثل أولاد في ملعب المدرسة،
بينما ملايين
الساعات من حرارة الظهيرة تدق في الفضاء.
زرقة انزلقت وامضة فوق حوض المرفأ.
سواد زحف ثم تضاءل، محدقاً من داخل حجر.
بياض يهب عاصفة في العيون.
عندما دقت الحوافر الساعة الثالثة
واصطدمت العتمة بجدار الضوء
كانت المدينة تزحف على باب البحر
وتومض في مرمى النسر.
أسرار على الطريق
ارتطم ضوء النهار بوجه النائم.
فازداد حلمه حيوية
لكنه لم يستيقظ
ارتطمت العتمة بوجه من كان
يمشي بين الآخرين تحت
خيوط شمس جزعة وكثيفة
فجأة أظلمت، كهطول مطر غزير.
كنت في مكان يتسع للّحظات كلها - متحف فراشات.
مع ذلك لا تزال الشمس حادة كما كانت.
كانت ريشتها المتلهفة ترسم العالم.
آثار
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل: ضوء القمر. توقف
القطار في منتصف السهل في البعيد نقاط ضوء
في مدينة تتلألأ ببرودة على تخوم النظر.
كما يذهب إنسان بعيداً في الحلم فلا
يتذكر انه كان فيه
عندما يعود الى غرفته.
وكما يذهب إنسان بعيداً في المرض،
فينقلب جوهر الأيام إلى شرارات
كتلة،
باردة ودون معنى على تخوم النظر،
القطار واقف جامداً تماماً.
الساعة الثانية: ضوء قمر كثيف، ونجوم نادرة.
ابتهال
أحياناً كانت حياتي تفتح عينيها في الظلمات.
عندما كنت أرى حشوداً عمياء مضطربة تمر في الشوارع
بحثاً عن معجزة
كنت أقف لامرئياً.
كمثل الطفل عندما ينام مرتعباً
مصغياً الى خطوات قلب ثقيلة.
طويلاً، طويلاً الى أن يقذف الصباح خيوط الضوء
في الأقفال وتنفتح أبواب الظلمات.
ستة شتاءات
I
طفل ينام في الفندق المعتم.
وفي الخارج: ليل الشتاء
يتدحرج فيه نرد الأعين الجاحظة.
II
نخبة من الموتى تحجّروا
في مقبرة كاتارينا
حيث ترتعش الريح
في عتادها السفالباردي.
III
في شتاء الحرب عندما كنتُ مريضاً
كانت قطعة جليد ضخمة تتمدد أمام النافذة.
جار ورمح لصيد الحيتان، ذاكرة بلا تفسير.
IV
يتدلّى الجليد من طرف السقف.
قطع جليدية: القوطي مقلوب.
مواش تجريدية، أثداء من زجاج.
V
عربةُ قطار فارغة على طريق مرآب.
ثابتة. مرحبة.
رحلات في براثنها.
VI
هذا المساء ستار ثلجي، ضوء قمر. قنديل البحر القمري
يطوف أمامنا. ابتساماتنا
في طريقها الى البيت. شارع مسحور.
ترجمة قاسم حمادي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد