أدونيس: يا شجرةَ المعنى، متى ستهبُّ رياحُ الصّوَر ؟
- 1 -
جُرِّبَتْ في الحياة العربيّة جميعُ أشكال الحُكم، لكن لم يتغيّر في المجتمع أيُّ شيءٍ من الأشياء التي يجب أن تتغيّر. جُرِّبَت حتى الثورات، وكانت النتائج أكثرَ سوءاً.
بقيت الصّخرةُ إيّاها.
إن شئنا حقّاً أن نتغيّرَ ونغيِّر، فلا بدّ من أن تنكسر الصّخرةُ ذاتُها.
سيزيف،
لا تزال الطريقُ طويلةً وشاقّة.
- 2 -
يدافعُ المفكّر الفرنسيّ جان - فرانسوا ليوتار Jean - François Lyotard
عن حقّ الإنسان في عدم التعبير، في الصّمت، قائلاً ما خلاصتُه: «لا معنى لحقّ الإنسان في حرّيّة التعبير، إذا لم يكن له الحقّ أيضاً في حرّيّة عدم التعبير، أو حرّيّة الصمت».
تاريخيّاً في المجتمع العربيّ، مورِسَ هذان الحقّان، لكن بوصفهما، موضوعيّاً، الخطر الأكبر على الحياة:
هناك من « عَبّر « عمّا يؤمن به حقّاً، فكانت حياتُه ثمناً لهذا التعبير،
وهناك من لم يُعبِّر، أو مَن صمَت، ففرغَت حياتُه من المعنى، عدا أنّه عاش « متَّهَماً «.
فلم يكن العربيُّ، يوماً، حُرّاً في أن « يتكلّمَ « ولا «حُرّاً « في أن « يصمت «، إلاّ في إطار « القاعدة «:
- هناك « مصَرَّحٌ به « ، يُتاحُ فيه القول، مبدئيّاً،
- وهناك « مسكوتٌ عنه «، يجب تجنُّبه، مبدئيّاً.
هكذا عاش الفردُ العربيّ في حالةٍ من التّخلّي عن جميع « حقوقه « من أجل القيام بواجباته « المفروضة «عليه، برقابةٍ مزدوجة:
رقابة « أهل السلطة»،
ورقابة « أهل المعارَضة».
الرّقابةُ جزءٌ عُضويٌّ في بنية المجتمع العربيّ - الإسلاميّ - سياسةً، واجتماعاً، وثقافةً. فليست مجرّدَ عملٍ سلطويّ، وإنّما هي عملٌ اجتماعيٌّ ثقافيّ. والفردُ في هذا المجتمع يولَد «مُقيَّداً «، خلافاً للقول المنسوب إلى الخليفة الراشديّ عمر بن الخطّاب: «متى استعبدتم النّاس، وقد ولدتهم أمّهاتُهم أحراراً». وليست حياتُه إلاّ نضالاً من أجل أن يُفلِت من هذا القيد، فيما يمضيها « متَّهَماً « سلَفاً، و « مُطالَباً « بتأكيد « براءته «، قولاً وعملاً.
- 3 -
إذا كان الفردُ في المجتمع الذي ينتمي إليه، لا يستطيع أن يختار ما يكوِّن هويَّتَه الشخصيّة الإنسانيّة: الفكر الذي يشاء، وأن يكون سيّدَ إرادته، وحياته، ومصيره، فإنّ ذلك يعني أنّه مجرّدُ « لفظٍ « وأنّه فعليّاً غير موجود، أو لم يولَد بعد.
أو لنقُل، بصيغةٍ أخرى، إنّ فرداً هذا شأنه لا يكون موجوداً في المجتمع إلاّ بوصفه عدداً أو رقماً. وتبعاً لذلك، لا يكون المجتمع نفسُه إلا خريطةَ أعدادٍ وأرقام.
وما المعنى الإنسانيّ لمثل هذا المجتمع؟ ما معنى سياستِه، وثقافته، وفنّه؟ وما معنى وجودِه بالذات؟
خصوصاً أنّ مثل هذا المجتمع « مُرَكَّبٌ « لكي لا يقدر أن يعيشَ إلاّ بوصفه طغياناً في الداخل، وتبعيّةً للخارج، وعالةً عليه.
وتلك هي مسيرة المجتمع العربيّ منذ أن هيمنت عليه الخلافةُ العثمانيّة. يعيش دون رؤيةٍ، دون مشروعٍ، ودون عِلْمٍ ، ودون فنٍّ، ودون فلسفةٍ، ودون عملٍ غير الاقتتال المَذهبيّ، والقَبَليّ، والطّائفيّ، وتكفير الناس بعضهم بعضاً، وذبح بعضهم بعضاً. وما يحدث الآن في العالم العربيّ من أعمالٍ وأفكارٍ هي ممّا تحت الإنسانيّة وممّا دونها، لم يحدثْ ما هو أفظع منه في أيّ بلد في العالم وفي أيّة مرحلةٍ من تاريخ البشريّة.
ويفرك « الحلفاءُ «من أهل الغَرْب، السياسيّ بخاصّةٍ، أيديَهم، قائلين: « لا شأنَ لنا في هذا كلِّه، وفي ما يحدث. هذا ما يريده المسلمون. ويطلبون منّا أن نساعدَهم. ونحن نساعدهم في ما يريدون، ولا نقدر أن نفرض عليهم الحرّيّة، أو العِلمَ، أو الديموقراطيّة أو التقدّم».
- 4 -
أينما سِرنا في الأرض العربيّة، يمكن أن تنخسفَ بنا. إنّها صحراء هائلةٌ من الأقبية العميقة، المموّهة. تغطّيها أوراقُ خريفٍ أو شتاءٍ، ربيعٍ أو صيفٍ، لا فرق. إذ لا معنى فيها للزّمن ولا قيمة له. وعلى الرّغم من « ناطحات سحابها « تغطّيها خرق نايلونٍ وبلاستيكٍ وتنكٍ وورقٍ مُقوّى - لا فرق.
إنّها اليومَ الأرضُ - المَهْرَب:
يهربُ منها « بعضُهم « في حربه على « الكُفّار «، طلَباً للنّعيم الإلهيّ،
ويهربُ منها « بعضُهم الآخر «، إلى حيث يقدر أن يفكّر ويعمل بحريّةٍ وكرامة، ولو كان ذلك في الجحيم، أيّ جحيم أرضيّ.
وتنهمِرُ من كلّ صوبٍ أشكالٌ كثيرة من التّشجيع والدّعم والعوْن إلى أولئك وهؤلاء. وتتنامى الأسطورة في المخيِّلة التي ترتبط عضويّاً بالماضي، ذاكرةً وثقافةً على السّواء، عصبيّةً وقبَليَّةً على السّواء، في مكانٍ لا حدودَ له، يسَع السّماءَ والأرض.
- 5 -
بدءاً من الخلافة العثمانيّة وحتّى اليوم، مات أسلافٌ لنا جميعاً، غصباً عنهم، مُجَنَّدين مقَيَّدين، في حروبٍ ليست حروبَهم، دفاعاً عن قضايا ليست قضاياهم. وليست دماؤهم مجرّدَ نهْرٍ موسميّ فاض وجفّ، وإنّما هي ينابيع تتدفّق في الفصول كلِّها. وليس « سفر برلك « نموذجها الوحيد، وإنّما هناك نماذج عديدةٌ، سبقَته أو جاءت بعده.
من أين يجيء هذا الغياب الهائل للإنسان العربيّ في هذا العالم العربيّ؟
من أين يجيء هذا الحضور الهائل في هذا العالم ، للآلة - آلة الفَتْكِ والقَتْلِ والدّمار والخراب؟
ومن أين هذه الدّعوة إلى ذَبْحِ بعضِنا بعْضاً، وأكلِ بعضنا بعضاً كغيرنا من المخلوقات الأخرى، ما دمنا حقّاً، على اختلافنا، أبناء طينةٍ واحدةٍ وخالقٍ واحد؟ ولماذا يُفَضَّلُ لنا الموتُ على الحياة؟ ولماذا العمل على تحويل هذا الكوكب الأرضيّ الأجمل بين الكواكب، إلى مجزرةٍ متواصلةٍ وإلى مقبرةٍ مفتوحةٍ أبداً.
وها نحن، يا شجرةَ المعنى،
بعضُ أغصانِكِ، بعضُنا، موجودٌ غير موجود،
لا يستطيع أن يقول جهاراً حتّى هذه الكلمة ذات الأحرف الثلاثة: نعم!
لا يستطيع أن يتلفّظَ جهاراً حتّى بهذه الكلمة ذات الحرفين : لا !
ياشجرةَ المعنى،
متى ستهبُّ عليكِ رياحُ الصّور ؟
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد