أنسي الحاج: «الإنســـان هـــو مـــا يُخفـــي»
■ «تجربة توفيق صايغ الشعريّة»
يقول أندريه مالرو: «في الموضوع الأساسي، الإنسان هو ما يُخفي». اقتفى الأديب العراقي سامي مهدي آثار توفيق صايغ (عن دار رياض الريّس) كلمة كلمة وحرفاً حرفاً في تحقيقٍ أشدّ صرامةً من فحص المختبرات وأكثر تحرّياً وتشريحاً من التحقيق البوليسي. أصاب في تشخيص افتعالات الشاعر وأخطائه التعبيريّة، وأصاب في لوم أصدقاء صايغ (ولا سيما جبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي) لعدم تنبيههم إيّاه إلى بشاعة تلك الافتعالات، وربّما أصاب في ترجيح تأثّر صايغ بالشعراء الأنكلوسكسونيين الذين سمّاهم مهدي وقارن بين بعض أبياتهم وبعض أبيات صايغ في جهد يستحق التقدير. لكن القارئ ينتهي من مطالعة الكتاب على ظمأ: ما دام صايغ كان يستطيع، باعتراف مهدي، أن يستغني عن افتعالاته بدليل أنه في بعض قصائده (كـ«موعظة على الجبل») يبلغ مدىً ممتازاً من الشفافية والبساطة، فلماذا تُراه أوقع نفسه في جبّ التصنّع والوعورة؟ لماذا يُنفّر قارئه عمداً؟ لماذا يشوّه تعبيره وهو قادر على تكريره؟ باختصار: ما الذي يختبئ خلف هذا التنكّر؟ أليس هو، والحالة هذه، أشبه شيء بالانتحار؟ وهل يكفي تبريراً أو تفسيراً القول بأنّه مجرّد ممارسة مازوشيّة؟ وافتراضاً هي هكذا، لماذا؟ إن اختزالاً موحياً كقول سعيد عقل في مقدمته لـ«ثلاثون قصيدة» إن توفيق صايغ «لم يسلسل حياته. لقد اقتحمها اقتحاماً. ومن هنا انه آثرها عنيفة لا جميلة». ـــــ مثل هذا الوصف السبّاق ألا يستوقف ويدعو إلى التمحيص؟ أليس العنف، وهو لا شك محرّك من محرّكات الحذلقة والإيلام عند صايغ، أليس العنف والتعنيف والاستهزاء والعبث والصدم وتكسير التناغم وتهشيم السلاسة وتجنُّب الحلاوة وتحاشي الطلاوة وتعمُّد وحشيّ الكلام أحياناً ومتاهات التركيب، أليست كلّ هذه وغيرها أقنعة على وجه مأساة؟ الأرجح أن ما يبدو ضعفاً وفشلاً، هنا، هو اختيار حرّ، والأرجح كذلك أن وراء هذا الاختيار أكثر من مجرد نزوة مزاجيّة أو رغبة مجانيّة في الإزعاج. نحن لا نملك الجواب في هذا الشأن ولا نملك حتّى فكرة عامة نقترحها، ولا نريد إلاّ أن نسجّل ما تمليه علينا معرفتنا بالشاعر ومعايشتنا لبعض تجربته.
يجلو كتاب سامي مهدي العديد من مكامن اللغز في شخصية توفيق صايغ وأدبه، لكنه يقف عند ظاهرة الافتعال ويوغل في تفاصيل تعداد أمثلتها وكأنها هي جواب نفسها، ولم يذهب بعيداً وراء الستار.
وهذه خسارة. فكاتب بقدرة سامي مهدي وثقافته وجَلَده كان يمكن، لو أعطى الجانب النفسي الأعمق اهتماماً أكبر، أن يتوصّل إلى نتائج بليغة. إن شخصيّةً بفرادةِ توفيق صايغ وتعقيداته تستحق النظر أبعد وتستحق أن نصبر على أشواكها وأخطائها لنتلمّس عبرها ما يتجاوزها إلى مرحلتها التاريخية وإلى محيطها قريبه وبعيده وإلى دوافع هذه اللغة المعذَّبة والمعذِّبة التي شهد بها صاحبها شهادة أشبه بصلب الذات.
إن ما يبدو ذاتيّاً صرفاً قد يكون كذلك لدى كثيرين، لكنّه لدى البعض دلالة على زمنٍ وعلى أزمة جماعيّة. حتى الجرح المحض ذاتي لا يظلّ ذاتيّاً محضاً في نتاج كاتب ممزَّق كتوفيق صايغ. ليس صحيحاً ولا مفيداً الاقتصار في النقد على حدود الأثر الأدبي دون الأخذ بحقائق شخصيّة الكاتب وتجاربه. النقد نوعٌ من الاكتشاف الشامل والاكتشاف الشامل يحتاج إلى جوسٍ شامل من أجل معرفة شاملة تمضي أبعد من الاجتهاد «الموضوعي» البارد والمحاسبة التقنية. والاجتهاد الموضوعي الحقّ يأخذ بحسبانه جميع المعطيات ويلحُّ بنحو خاص على اختراق الظواهر المباشرة. ولا ريب أن شاعراً ودارساً كسامي مهدي يدرك أن النقد، عندما ينجز مهمة كهذه، يرقى إلى مستوى الإبداع وقد يفوق الأثر الذي يتناوله.
■ «مقدمة للشعر العربي»
أُطالعُ في الطبعة الجديدة من كتاب «مقدمة للشعر العربي» (دار الساقي) فتستوقفني مرة أخرى قدرة أدونيس على جلاء خصائص الشعراء. على التقاط جوهرهم والإفاضة في اكتناهه معاً. إنه بين المحدثين أول مَن أجاد التعريف بالأقدمين، ممسكاً بجسر التوازن بين فهمهم في ظروفهم التاريخيّة وتقويمهم عبر رؤية حديثة. «أدرك أبو نواس، شأن أسلافه، أن الزمن تيّار يجرف ويمحو. لكنه قرن هذا الإدراك بمعرفة ثانية هي أن الزمن كذلك يمنح الأشياء حضورها وقوّتها، ويرينا عمق حياتنا الماضية وأفق حياتنا الآتية وكثافة حياتنا الحاضرة. الزمن يأخذنا، لكنّه يأتي بنا ويستبقينا في العالم ويتركنا، لأجلٍ قريب أو بعيد، وجهاً لوجه مع الطريق وأبعادها. دور الشاعر إذاً هو أن يشارك بطاقته كلها في تكامل الإنسان خلال الزمن ـــــ بين شهوة الحياة وغبار العالم. فللشاعر ميزة مزدوجة: عالق بالتاريخ ملتصق به حتى الانصهار، منفصل عنه، بعيد حتّى الغربة. إنه لا يؤخذ بالحياة إلاّ فيما هو يبحث عن حياة ثانية وراءها».
وعن الغموض عند أبي تمّام: «إنه صادر عن صفاء ذهنه وشفافيته وعن بُعده التأمّلي، لا عن تشوّشه الروحي أو ضعف تعبيره (...) يصحّ وصفه بما قاله كوكتو عن مالارميه: «غامضٌ كالماس». كل شاعر كبير هو، بالضرورة، غامض غموضاً ماسيّاً».
وعن المتنبّي: «المتنبّي وحدة غاضبة لا يرضيها شيء. لكن وحدته ليست هرباً من العالم، ليست وحدة اللجوء إلى الراحة والهدوء وليست مملكة مغلقة. إنها وحدة المجابهة ـــــ مجابهة العالم، واللعب به وتجاوزه. وحدة الألم الكبير: فمَن لا يملك غير آفاق لا يصل إليها، تمتلئ أعماقه بالمهاوي».
وقريباً منّا، عن جبران: «إن الوضع الذي عاناه جبران وعاشه يشبه وضع إنسان ينزل بطيئاً واثقاً في محيط العالم، لا تزعزعه موجة ولا يردّه عائق، لا يتردّد، ولا يحتار، ولا يلتفت. يستمر في هبوطه سائلاً، مأخوذاً بأغوار المحيط وأبعاده. وهو دائماً وَضْع مَن يسكن في أوائل الصباح، في ما قبل الظهيرة، وفي ما قبل الشيخوخة».
لأدونيس، إلى عديد مواهبه، موهبة الكشف، وهو في طليعة مَن يُستشهد بهم لتأكيد القول الشائع بأن الشعراء هم أفضل النقّاد، بل وأفضل الدارسين والمعلمين. من مصادر قوّة أدونيس أنه في غوصه على التفاصيل لا تضعف طاقته على الإحاطة الإجمالية. ينصهر في بوتقته التحليل والاستخلاص انصهاراً متناغماً، وأكثر ما يصيب عندما يلتقط بالحدس والانطباع ويعبّر بالحدس والانطباع، مثل قوله عن لغة إلياس أبو شبكة: «بين كلماته وبين الأشياء حوله نوع من المطابقة. كأن كلماته أشياء مادية، وكأن لها طعم الأشياء المادية». حرت طويلاً وأنا أفتّش عن صورة لما أشعر به لدى قراءة أبو شبكة، خصوصاً نثره، (وأنا ممّن يعتقدون بتفرّد نثره واحتلاله مكاناً خاصاً ومغبوناً إن لم أقل مجهولاً تماماً). بهذه العبارة، «طعم الأشياء الماديّة»، وضعني قلم أدونيس في صميم ضالّتي. هذا التسديد هو أحد تحدّيات الكتابة، بل أحد تحدّيات التعبير عامةً. والشاعرية من جوهريّاتها القبض على هذا السراب.
يكشف الإقبال على مؤلفات أدونيس التنظيريّة حاجة الأجيال الجديدة إلى الاهتداء في حقل لا يزال مجهولاً هو حقل الشعر، ولا أقول الشعر الحديث وحده، بل الشعر عموماً. كما يشكّل حافزاً لسائر الباحثين والنقّاد على إيلاء هذه الناحية ما تستحقّها من اهتمام.
تقع على دور النشر في هذا المجال مسؤولية خاصة لا نظنّ أنها تضطلع بها، اللّهمّ إلاّ في باب المنشورات المدرسيّة، وهو نشاط محض تجاري بالنسبة إليها، وقَلَّ أن يكون في المستوى العلمي المطلوب. يهيم بعض الدور غراماً بنشر المجموعات الشعرية نشراً عشوائياً يسيء إساءة بالغة إلى الشعر وإلى النشر، وفي المقابل تمتنع دور أخرى عن نشر الشعر إلاّ ما كان منه «مضموناً» لجهة الرواج. السلوكان كلاهما خاطئ. المطلوب سياسة نشريّة تعتمد التوازن بين حاجة السوق والمسؤولية المعنوية في معزل عن الحساب التجاري. وأحياناً يلتقي العاملان. لقد تراكمت المجموعات الشعرية أكداساً فوق أكداس بلا ناقد ولا مرشد، ومقالات الصحف معظمها سطحي أو إعلاني، وقبل الأكداس الجديدة ثمّة عقود من الإنتاج الشعري العربي لم تحظَ بمَن يقيّمها وربما بمَن يقرأها مجرّد قراءة أولى. والأجيال السابقة كانت تقرأ لكنها لم تكن تعلّق أو تدرس كتابة ما تقرأ إلاّ نادراً جداً. وكانت لها مقاييسها بينما المقاييس اليوم مختلفة وعلى الأغلب أكثر أهميّة وشمولاً وتعميقاً. على امتداد العالم العربي من المغرب إلى المشرق يمكن القول إن الجغرافيا الأدبيّة غابة عذراء لا تتردّد فوقها إلاّ شعارات محدودة مكرّرة ومعادة، تكسوها البقع المظلمة والمستنقعات. وهذا يعني أن العقل الأدبي العربي فقير حدّ الموت. الدراسة عقل. البحث عقل. النقد عقل. عقل في معناه الأكبر، عقل الفضول والاكتشاف والتعريف والإقرار والتقويم، عقل المواكبة والمعالجة والتنوير والتصويب والمحاسبة. عقل التشدّد الصارم حيث يقتضي المقام وعقل الحماسة والانحناء حيث أيضاً يقتضي. إن سلطة النقد، وقد حضرت في بعض اللحظات المشرقة الخلاّبة، غائبة اليوم تماماً. وما يعوّض عنها هو، مرة أخرى، انعطاف شعراء كأدونيس وبول شاوول وعبّاس بيضون وشوقي بزيع وعبده وازن وعبد العزيز المقالح ومحمد بنّيس وغيرهم، بين وقت وآخر، للتنويه بهذا الأثر أو ذاك، أو لتخصيص دراسة بشاعر أو حقبة في مناسبة استثنائية. وهو تعويض غالباً ما ينوب عن أي نقد مهما علا شأنه، لكنّه لا ينوب عنه في المبدأ، لا في الحاجة السيّارة المتداولة ولا في المفهوم الحضاري المطلق. ومن المفارقات المؤلمة كون العصور الأدبيّة العربية القديمة، وعلى الأخص العصر العبّاسي، قد عرفت ازدهاراً في النقد والتراجم والتأريخ الأدبي لم تعرف مثله عصورنا الحديثة.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد