أنسي الحاج: بخـــــــــلاء (2)
بين الورقة البيضاء والقلم الراكض عليها، لعلّك تعرف مَن الأكرم. الأرض والزارع، الأنثى والذكَر، السهل والحصان.
المطر والتراب، النهر والبحر.
لعلّك تعرف...
■ ■ ■
كيف أفكّر في الفقراء وأنا فقير، يتلوّع الواحد. تفكّر بمـــا يزيد عليك. مهما كانت إشباعاتك ناقصة، يظلّ ثمّة ما يفيض عن حاجتك. كلّ فقيرٍ لديه ما يفيض عنه. لكــــلّ فقيرٍ أفقــــرُ منه.
■ ■ ■
يتحرّشُ سخيٌّ مبتدئ بفقيرٍ أصيل فيجود عليه: هكذا يولد مدمنٌ لن يعود يصادف مَن يحاكي دهشته الأولى ولا ما يُلْقم فمه الجديد.
■ ■ ■
يؤول البخيل إلى فخامة المومياء، ويؤول السخيّ إلى انفجار الينبوع الذي ضاق بمجراه.
■ ■ ■
كيف تعرف أنّ مَن يكتب عن البخل ليس بخيلاً؟
■ ■ ■
الكريمُ المفلس ملعون كينبوع سابق.
■ ■ ■
بخيلٌ يُمسك يده تماماً هو أقلّ إهانةً من بخيلٍ يتصدّق بما لا يليق. الأوّل بخيل محايد، الثاني بخيلٌ حارق.
■ ■ ■
البخيلُ أنانيّ والمتألّم من بخل البخيل أناني. الفرق أنّ الأوّل قاهر والثاني مقهور.
■ ■ ■
الذي يعايش البخيل ويظلّ غير مدرك أنّه بخيل يستحقّّ السجن لغبائه أو التطويب لقداسته.
■ ■ ■
قد يتراءى لقارئ أنّ هذا الكلام على البخلاء تصفية حساب.
وهو كذلك لو استطاع.
■ ■ ■
بين أشدّ ما يُغيظ في البخيل أنّه لا يرى في ما تعطيه إيّاه قيمة تُكافأ. نستطيع أن نُسقط هذه الفكرة على ربّ العمل والأجير، على أنّنا هنا ننتقل من البخل، وهو آفة نفسيّة، إلى الاستغلال، وهو نظامُ بخل فاعل على النطاق الأوسع. بخلُ الكهوف وبخل العولمة.
■ ■ ■
الفاضلون لا يكرهون البخلاء. يفهمونهم ويعذرونهم. بين الفضيلة والبخل تشابهٌ في الامتناع. أكثر مَن يكره البخلاء هو الفاسد. الفساد يحتاج إلى انحلال البحبوحة.
■ ■ ■
اكسبِ المال ولا تَدَعْهُ يكسبك.
■ ■ ■
لا تقل «هذا حقّي والبخيل سلبني إيّاه» أو «لم يعطني غير جزء من حقّي»، الحقّ شيء والعطاء شيء. الحقّ عدل والسخاء حبّ فوق الحبّ. الحقّ موضع نقاش والسخاء ما وراء الجَدَل. أساساً يجب أن لا تَطْلب. الكريم يبحث عمّن يغدق عليهم. الحقّ ناشف والسخاء احتضان. أجمل ما يستطيعه إنسان ليس الحبّ ولا الشعر ولا الخلق بل العطاء. والذي يُعطي، كلّما أعطى انسحق، وكلّما انسحق ازدادت هالته توهّجاً. العطاء أحد طرق الألوهة في التدخّل بالحياة اليوميّة.
■ ■ ■
«إحساننا إليهم يساعدهم على الترقّي» يقول أحد إعلانات حملة رمضان لجمع التبرّعات. كان أفضل أن تُحذف «إحساننا» هذه، وأيضاً «يساعدهم» هذا. هم؟ مَن هم؟ المحتاجون؟ الفئة البائسة؟ المعاقون؟ الأيتام؟ لا ضرورة للإشارة الدونيّة هذه، ولا لزوم بالأخص للاعتقاد أننا «نرقّيهم بالإحسان». إحساني يُرقّيني أنا، وأرفض أن أدعوه إحساناً. الإحسان إهانة. يجب أن نضع محل هذه الكلمة الطبقيّة كلمة «عطاؤنا» ونقول «عطاؤنا لأحبّائنا شرفٌ لنا» أو «ترقٍّ لنا» أو «جمال لنا».
العطاء في رمضان من الخصال الجيدة، ليته يمتد طوال الوقت. لندعه يتطهّر من ضحالة التصدّق. ليأخذ الأثرياء مبادرة العطاء السخيّ بلا حساب ولا إعلان. وليلحق بهم الآخرون كلٌ على قدر طاقته. الشرط هو الكَرَم، وأن تكفي التبرّعات المعوزين سنةً كاملة وتتجدّد كلّ سنة.
■ ■ ■
«حسدتم للمقتصدين تدبيرهم ونماء أموالهم ودوام نعمتهم، فالتمستم تهجينهم بهذا اللقب وأدخلتم المكر عليهم بهذا النبز. تظلمون المتلف لماله باسم الجود، إدارةً له عن شيئه، وتظلمون المصلح لماله باسم البخل، حسداً منكم لنعمته، فلا المفسد ينجو ولا المصلح يَسْلَم».
وضع الجاحظ هذا الكلام في كتاب «البخلاء» على لسان أبو محمد الحزامي (وقيل «الخزامي») الذي كان «أبخل مَن بَرَأ الله وأطيب مَن برأ الله، وكان له في البخل كلام، وهو أحد مَن ينصره ويفضله ويحتجّ له ويدعو إليه». والحقّ أنْ ليس كلّ كلام هذا البخيل تباهياً ولا صفاقة، فبعضه منطقي مثل قوله: «حبّذا الشتاء فإنه يحفظ عليك رائحة البخور، ولا يحمض فيه النبيذ إنْ تُرِك مفتوحاً، ولا يفسد فيه مَرَق إنْ بقي أياماً». ولو زاد عليها: لا تهبّ روائح العَرَق لأتمَّ المراد.
على أنّ هذا بخْلٌ مُتبَّل، فيه وما فيه، وقد تشفع به صراحة صاحبه وأكثر منها ظرفه وأكثر منهما بعض الصواب ولو قهّاراً، غير أنّه يَظلّ كريهاً. ولولا المبالغة لقلنا إن شرّ البخلاء وأسمَّهُم، أصرحهم وأذكاهم. ولمَ لا نقولها؟ وأين المبالغة فيها؟
■ ■ ■
وفي دفاع أحدهم عن الرغبة بالغنى، بيتان لعروة بن الورد ذكرهما الجاحظ في «البخلاء»:
«وتَلْقى ذا الغنى وله جلالٌ
يكادُ فؤادُ صاحِبِه يطيرُ
قليلٌ ذَنْبُه والذَنْبُ جمٌّ
ولكنَّ الغنى ربٌّ غفورُ».
■ ■ ■
في ممالك المال الكرَمَ يُتَرْجَم بالمال. وكلّ المجتمعات صارت ممالك مال، مفلسة كانت أو مزدهرة. لم يعد ينفع دفاعٌ بالسيف عن الأرملة واليتيم، بل بدفع الإيجار والفواتير وإغداق المنح. شرف القادر يُعبّر عنه بالعطاء، والعطاء، حتّى من لدن «الكائنات المعنويّة» كالفنّانين والأدباء، لا «واقع» له غير العون على المعيشة. البخيل يستعين بالروح ليخبّئ ثروته. المادة هنا وحدها برهان العطاء.
■ ■ ■
الله خلق الإنسان مجاناً، ولما ندم فتح عليه باب الموت.
الكَرَم المجاني الذي لا ينتظر مبادلة، ليس أرفع المقامات فحسب، بل هو ضربٌ من الألوهة ما بعد الندم.
■ ■ ■
كَرَم المطران مع الشقي جان فالجان الذي سرقه («البؤساء») حوّل اللصّ إلى رجل خير. يتّصل كَرَمٌ كهذا بالغفران والحنان، يسمو فوق الوعظ ويتجاهل القانون ويحتقر العدل الرسمي ويعترف بفاعليّة المادة. لا يسرق غير المحتاج. المحتاج أحقّ من الجميع. أوّل واجبات القادر حيال المعوز هو العطاء، وإذا انتزع المعوز حاجته بالحرام فهذا الحرام
مبارك.
■ ■ ■
الكَرَم صفة الحرّ. لا فضل لمَن يجود على عشيقة أو تجود على معشوق، هنا لا حريّة اختيار. الفضل لمَن ليس مدفوعاً بغاية إلّا المروءة والشهامة والمحبّة. حَسْبُ الكريم أنّ الكَرَم يُبخّره.
■ ■ ■
الحبّ لا يعوّض عن الكَرَم. في الكرم اندفاقٌ أقوى من الحبّ. الكرم أعلى من الحبّ.
■ ■ ■
الميسور الذي يُمسك يده عن محتاج هو إلى الحقارة أقرب منه إلى القسوة. ثمّة قسوة عالية الجبين. البخل اللامبالي حقير.
■ ■ ■
يقول سبينوزا: «الكَرَم رغبةٌ يسعى الشخص من خلالها، وانطلاقاً من محض إرادة العقل، إلى مساعدة الآخرين وإقامة رابطة من الصداقة معهم». تعريفٌ ينافس ذاته في التجريد. الكَرَم ليس نظريّة عقلانيّة ولا خطّة تستهدف كسب الأصدقاء، إنّما هو هَفٌّ إنسانيٌّ مجانيّ، وإذا تَنافَس فمع ذاته نحو المزيد، حتّى شموله مَن لا
يعرفهم.
■ ■ ■
«تُخاطب الصلاةُ كَرَمَ نَفْسِ الظلمة. الصلاة تحدّق إلى السرّ بعيون الغياهب، وأمام الثبات الهائل لهذه النظرة المتضرّعة يَلوحُ احتمالُ استسلام المجهول».
(فكتور هوغو، «عمّال البحر»).
أكثر ما يبتهل الإنسان في أوقات العجز. يبتهل إلى الكريم. «يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم». شحّاذ الشوارع تظهيرٌ محدود لشحّاذ الله.
عندمايُستجاب التوسّل يُحِسّ المستجاب له بأنّ الأفق انفتح ولامس اللانهاية. غبطةٌ لا توصف ونَهَكٌ يَعقب التركيز
الشديد. ماذا يُحسّ المُعطى له بدون أن يستعطي؟
يُحسّ بأنّ العوز الصامت أيضاً يُسْمَع. للحاجة المحتشمة خَرَسٌ يهزّ الجانب المضيء من
القَدَر.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد