إصدار مراسلات الكاتب الأميركي ترومان كابوت بعد ثلاثين سنة من رحيله

18-01-2013

إصدار مراسلات الكاتب الأميركي ترومان كابوت بعد ثلاثين سنة من رحيله

بعد ما يقارب الثلاثين سنة على رحيله، ما زال الكاتب الأميركي ترومان كابوت يثير الكثير من الأصداء والحضور في المشهد الثقافي في العالم بأسره، إذ نجح عبر كتبه المتعددة والمتنوعة ـ روايات، أقاصيص، تحقيقات، سير، أدب رحلات، سير ذاتية، مسرح ـ أن يكون واحدا ممن يتبوأون مقدمة خشبة المسرح الكتابي، لا في بلاده فقط، بل أيضا في أكثر من عاصمة وبلد أوروبيين، وجدا فيه ناطقا حقيقيا باسم جيل كبير.
كل فترة تعود دور النشر "لتتذكره"، وهو الذي لم يغب أبدا، عبر إعادة إصدار الكثير من أعماله الماضية، كما صدور بعض الكتب الجديدة عنه. من هنا، وربما لاقتراب ذكرى رحيله الثلاثين في العام المقبل، تعيد بعض دور النشر الفرنسية التعريف به، لتدفع إلى اكتشافه من قبل شريحة لم تقرأه بعد. إذ تتوارد أخبار الصحف أن بعض مخطوطاته غير المنشورة، سترى النور قريبا، مثلما يجري التحضير لسيرته، وإصدارها. ووسط ذلك كله، تعيد سلسلة "10/18" إصدار مراسلاته الممتدة من بداية الستينيات وحتى غيابه العام 1984، تحت عنوان "متعة قصيرة جدا". إذ كما هو معروف عن الكاتب، لم يتوقف عن الكتابة لأصدقائه في أيّ يوم من حياته، وبخاصة أنه لم يعد إلى الرواية بعد صدور رائعته "عن الدم البارد" العام 1965. من هنا تشكل هذه الرسائل وثيقة مهمة لمعرفة هذا الشخص، الذي ترك بصمته الواضحة على الأدب الأميركي الحديث. مراسلات، تفوق فعلا أهمية أيّ سيرة تكتب عنه، وقد قام بتحقيقها وترجمتها، جيرالد كلارك، الذي كان أصدر في تسعينيات القرن المنصرم، سيرة حول كابوت. حول هذا الكتاب، مقالة معدّة عن الصحف الفرنسية، للإطلالة على واحد من كبار القرن العشرين في الكتابة.
تبدو الفانتازيا أحيانا كأنها تشكل نزوة من نزوات الواقع. إذ كان ترومان كابوت، الكاتب الأميركي، يكتب مثلما نستعمل اليوم هاتفنا الخلوي. لم يتوقف عن كتابة الرسائل، منذ مراهقته إلى ما قبل رحيله بقليل. لذلك تأتي هذه المراسلات، لتذكرنا بذلك كله، مثلما تذكرنا بأنه كتبها كي يردم هوة هذا الغياب، كي يتقاسم تفاصيل يومياته مع أصدقائه. رسائل، كانت تقول كلّ شيء، إلى من يراسلهم: يتحدث فيها عن عاطفته، بتدفق أحيانا. من خلالها نعرف أيضا ولو بشكل قليل عن تأملاته العميقة، عن قراءاته، ما عدا قراءة أعمال معاصريه، إذ كان يصفها بسوء كبير.
ومع ذلك، نحن أمام مراسلات كاتب. إذ نجد فيها ذاك السؤال الكبير المتعلق بالكتاب المقبل، بعمله الكتابي، بالنظام الذي يتبعه، على الرغم من كلّ متع الحياة التي تفرض إسرافها الخاص. هناك أيضا كلّ الهموم التي تؤرقه، والتي تصاحب نشر كل كتاب جديد: إعادة قراءة المخطوطات بشكل دقيق، المجابهات مع الناشر الذي يطالب في بعض الأحيان بتصحيحات غير ملائمة (وفق ما كان يجد)، مرورا بالتساؤل حول كيفية استقبال النقاد للكتاب، لنصل في النهاية، إلى الشكاوى المتكررة: لم نبع كفاية من الكتاب لأن الدعاية لم تكن واسعة بما فيه الكفاية.
هذا بالتأكيد جانب من جوانب الكتاب، إلا إننا لا نستطيع أن نغفل جانبا آخر، لا يقل أهمية: إذ يمكننا أن نقرأ هذا الكتاب، المقدم بشكل جيد، وكأنه سيرة ذاتية مليئة بالتفاصيل اليومية، وبخاصة أن تقسيمه يدفعنا إلى ذلك، فهو يقع في أربعة أجزاء ذات تسلسل كرونولوجي من العام 1924 وحتى العام 1984 وهي الحياة القصيرة نسبيا التي عاشها ترومان كابوت.
إذا كنا نحب أدب ترومان كابوت، بكلّ ما يحمله من ميل إلى كتابة أدق التفاصيل، من مناخاته الخاصة، من أحاسيسه ومشاعره، من روحه المتفردة، من خبثه، ومن حنانه أيضا، لا بدّ من أن نقرأ هذه الرسائل دفعة واحدة، حتى وإن وجدنا أن عاطفته مفرطة أحيانا وتزيد على حدها، كما أن طريقته في الكلام عن نفسه وعن أصدقائه، مزعجة في أحيان أخرى. حتى وإن كنا نجهل هوية جزء من هؤلاء الأصدقاء، إلا أن بعضهم على كثير من الشهرة، وفي المقام الأول سيسيل بيتون، الصديقة الحقيقية، كما كل هؤلاء الآخرين الذين يعملون في حقل النشر، الصحافة، الوسط الفني، الوسط الجامعي في تلك الحقبات المتعاقبة. بيد انه حتى لو عرفناهم، فذلك لن يغير أي شيء، لأننا نقرأ كابوت في المقام الأول، من نيويورك إلى باريس، ومن إسبانيا إلى سويسرا، ومن لندن إلى فينيسيا، أي في كل الأمكنة التي تواجد فيها وكتب منها.

مفارقة التراسل
ثمة مفارقة لا بد من أن تطالعنا في قراءة هذه المراسلات: من الأفضل ألا يكون المرء صديقا قديما لكابوت. لو أخذنا حالة كارسون ماك كلرز، على سبيل المثال، وكان التقاها في روما، مع زوجها ريفز، في العام 1952 حول ذلك يكتب: تطفح روما بالمعارف القدامى. غالبا ما يمكننا أن نلمح سيستر (هل تذكرها، كارسون ماك كيلرز الشهيرة؟) والسيد سيستر، زوجها، وهما يتمايلان على طول شارع فينيتو. ومع ذلك، فبعد عدة أشهر، حين انتحر ريفز في باريس، حضر كابوت مراسم دفنه وشعر بحزن غريب إذ إنها قصة صعبة على التصديق.
لا تبدو كلمة كرم حاضرة فجأة حين نقرأ ترومان كابوت، ومع ذلك كانت هذه الصفة موجودة في حياته، وبخاصة حين يقدم يد المساعدة لباتريسيا هايسميث، ووليام غوين، وفي إعجابه العميق بالكاتب وليام ستايرون، (مؤلف كتاب "خيار صوفي").
هل من صفات أخرى تكشفها لنا هذه المراسلات؟ كان كابوت يجيد السفر، يعرف كيف يرى ويلاحظ بدقة، كان وهذا هو الأهم يجيد الكتابة بشكل مدهش. إذ يحيل أي مكان، ومن خلال صورة قليلة فقط، إلى مكان حاضر مليء بالحيوية. كان يعرف رؤية الألوان ويعرف كيف يضعها في نصه، تماما مثلما يضع الروائح التي يستنشقها. ثمة ميزة أخرى، يصغي جيدا إلى ما يدور حوله من أحاديث فإما أن يحبها وإما أن يكرهها في الحال. تماما مثل الأمكنة إذ يقول عن كاليفورنيا: كل شيء هناك، حتى مذاق القهوة، أشبه بطعم الفريز لذلك كرهها منذ اللحظة الأولى. كان يعتقد أيضا: من الأفضل أن "يموت المرء في فينيسا" (إشارة إلى رواية توماس مان "الموت في البندقية) بدلا من أن يحيا في هوليوود. ومع ذلك، فقد مات في لوس أنجلس في الخامس والعشرين من شهر آب، العام 1984 قبل شهر واحد من عيد ميلاده الستين.
بالنسبة إلى قراء روايات كابوت، سيجدون حتما أن القسم الثالث من الكتاب 1959 ـ 1966 هو الأكثر متعة. إذ يكتب، بشكل مطول، عن كيفية ولادة روايته رائعته "عن الدم البارد" ، لنتبع بالتفصيل التحقيقات التي قام بها لكتابة هذا العمل، نتبع التردد والقلق اللذين كانا يلاحقانه، نقع على فرحته حين استطاع في أيار 1962 أن يرسل إلى ناشره جزءا من مخطوطه، هذا الفرح الذي وصل إلى أقصاه في 18 شباط من العام 1965 حين وضع نقطة النهاية. كتاب عرف نجاحا كبيرا، جعل من مؤلفه واحدا من أبرز الكتاب في تلك الفترة، قبل أن يسقط في الكحول والمخدرات لغاية موته. من هنا أصبحت هذه المراسلات بديلا من كلّ المشاريع التي كان ينوي القيام بها. صحيح أن هذا الكتاب كان السبب في شهرته، لكنه كان السبب أيضا في نهايته مثلما يكتب جيرالد كلارك في السيرة التي كتبها عن كابوت. في أيّ حال، مراسلات تعطينا الرغبة في إعادة قراءة أعمال الكاتب وبخاصة أنها ستكون راهنا، تحت نظرة أخرى: اعترافات كابوت نفسه التي تكشف للمرة الأولى.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...