اقتصاد العالم بعد كورونا
كثير من خبراء الاقتصاد كانوا يتوقعون إقبال العالم على ركود اقتصادي خلال 2020، دون تحديد الأسباب بشكل واضح، منهم من عزاه إلى دورية طبيعية يمكن أن يمر بها الاقتصاد العالمي ثم يخرج منها بشكل طبيعي أيضاً، ومنهم من عزاه للحرب التجارية الصينية الأميركية وقرارات سياسة الحماية التجارية التي بدأتها واشنطن واستخدمتها ضد الدول الأوروبية.
كل شيء متوقع
في الشهر العاشر من 2019، إدارة المخاطر في "بنك جي بي مورغان" الأمريكي شددت على على توقعاتها بنشوب أزمة مالية عالمية عام 2020 نتيجة ركود اقتصادي مقبل، وقبل البنك بأشهر تتالت التوقعات بهذا الصدد، ليدخل العالم فعلاً في ركود اقتصادي خلال الربع الأول من العام الجاري بحسب "معهد التمويل الدولي" كما كان متوقعاً، لكن السبب لم يكن أبداً ضمن الخيارات المطروحة مسبقاً.
فيروس كورونا المستجد كوباء، كان متوقعاً أيضاَ، لكن لم تكن توقعات الاقتصاديين تربط بينه وبين الأزمة الاقتصادية، علماً أنه ضرب بقسوة أقوى اقتصادات العالم كالصين ثم أوروبا وبعدها أميركا. الأطراف الثلاثة التي دخلت الحرب التجارية وهددت العالم بالركود.
شخص واحد فقط، جمع الفيروس والأزمة الاقتصادية ضمن توقعاته. مؤسس مايكروسوفت بل غيتس بخطابه الموثق في "مؤتمر تد" 2015، تحت عنوان "الوباء القادم؟ لسنا على استعداد له، تحدث وخلفه صورة لفيروس تاجي قائلاً "في الواقع، دعونا ننظر إلى نموذج لإنتشار فيروس عن طريق الهواء، مثل الإنفلونزا الإسبانية التي ظهرت عام 1918، هذا ما يمكنه أن يحدث،. يمكنها الإنتشار في جميع أنحاء العالم بسرعة كبيرة جداً، ويمكنكم رؤية أكثر من 30 مليون متوفى من هذا الوباء. هذه مشكلة خطيرة".
وجاء في خطابه أيضاً "حذر البنك الدولي أنه إذا كان لدينا وباء إنفلونزا في جميع أنحاء العالم، فإن الثروة العالمية ستنخفض بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار وسيكون لدينا الملايين والملايين من الوفيات (...) ليس علينا إكتناز علب السباغيتي أو الاحتماء في الطابق السفلي، بل علينا العمل، لأن الوقت ليس في صالحنا".
توقعات بل غيتس استندت إلى عدة فيروسات انتشرت وقتلت البشر مثل ميرس وسارس وإيبولا، وتوقعات جي بي مورغان استندت إلى ممارسات اقتصادية تشير إلى مشاكل مستقبلية. التوقعات تحققت بالفعل بغض النظر عن الأرقام إن كانت دقيقة أم لا، لكن كل ما سبق يشير إلى أن البشرية كانت تعلم ما سيحدث دون أن تتحرك علمياً وصحياً وطبياً في سبيل الاحتياط للخطر القادم ربما لأن الأمر غير مجدي اقتصادياً، فبدلاً من دعم الأبحاث العلمية في المجال الطبي، وزيادة بناء المشافي، والاحتياط للأسوأ صحياً. دُعمت الأبحاث العلمية العسكرية وزاد سباق التسلح، واستعرت الحرب التجارية أكثر فأكثر، ضمن نزاعات سياسية تخدم فئات معينة فقط.
قلة استثمار
أيضاً، التسابق للاستثمار في الذكاء الاصطناعي لم يخرج من دائرة الربح والعسكرة أكثر من فائدة البشرية، فلم يوظف بالشكل المطلوب طبياً أو ينفق عليه بهذا الميدان كما يجب، واقتصر كل ما يخص هذا القطاع بنشر الأبحاث والدراسات وتجارب فقيرة ومحدودة تتوقع ما قد يكون عليه الطب في المستقبل، لكن ما طبق على أرض الواقع بشكل واسع هو بعض الأدوات البسيطة في التنظير أو الأشعة، إضافة إلى الأمور النظرية.
في المقابل، راحت شركات الذكاء الاصطناعي لتوظيف أموالها في الروبوتات القتالية، أو التي تأخذ عن الإنسان بعض وظائفه بالحياة كتوظيف الذكاء للتذكير بالمواعيد، أو لزيادة الإنتاج الصناعي والتجاري والخدمي بهدف زيادة الأرباح مقابل خفض التكاليف على حساب القوة البشرية العاملة، كروبوت يقدم نشرة أخبار أو ينظف أو يعمل كشرطي ليكشف مجرم، ومنهم من وظف هذا القطاع لجعل رقابة الحكومات على شعوبها أكثر دقة وصرامة، ومنهم من راح لتسخير البيغ داتا لزيادة أرباح شركات الخدمات الإعلانية.
لا يمكن إنكار وجود تطورات هائلة ربما تكون واعدة في المجال الطبي من ناحية أسلوب الكشف عن المرض أو أدوات استخدام العلاج، لكن ليس العلاج ذاته، فلم يكتشف الذكاء الصناعي مثلاً علاجات جديدة لأمراض مستعصية غير تلك التي وضعها الإنسان نفسه، لعدم الاستثمار به ضمن هذا القطاع كما يتم استثماره في مجالات الإنتاج والصناعة والتجارة، والسياسة والحروب، ماجعل فيروساً صغيراً متوقعاً وله تاريخ سابق، يهدد البشرية ويجعلها تحبس في المنازل.
حالياً، وعلى الرغم من تسريع الأبحاث ومحاولة زج كل التقنيات فجأة في خدمة البحث العلمي، إلا أن القضية لازالت مرتبطة بالعامل البشري وذكائه بالدرجة الأولى، وقدرته على استثمار المال في قطاع الصحة وانتاج عقار أو لقاح لإنقاذ البشرية فقط دون النظر إلى الأرباح، فالفيروس قد لا يستمر طويلاً والاستمثار في لقاحه غير مربح مادياً.
حتى الآن لا نتائج نهائية، والمواعيد المتوقعة لإنتاج لقاح خاص بكورونا تمتد لسنة أو أكثر، أي أن البيغ داتا والذكاء الاصطناعي غير مؤهل ليختصر مرحلة الاختبارات وينقذ البشرية مما هو أسوأ.
جشع البشرية
ورغم العجز البشري أمام كارثة متوقعة، وحجم الخطر المحدق بالإنسان نفسه، إلا أن ذلك لم يوحد هذه السلالة من الكائنات الحية حول المشكلة، ولم يجعل القضية ترقى لمستوى التسامح الإنساني. بل على العكس، استُثمر انتشار الفيروس سياسياً لضرب الخصوم ومحاولة الخروج بأقل الأضرار المادية والسياسية، فلم ترفع العقوبات الاقتصادية عن أي دولة إنسانياً، واستخدم اسم الفيروس أحياناً للتنمر على الأعداء، ولم توقف الحروب، ولم تعلق المخاصمات، بل اشتدت المهاترات بين السياسيين.
وتلاعبت شريحة صغيرة بمصير حياة الملايين خوفاً على أموالها، رغم تدهور الأوضاع اقتصادياً وصحياً، كبعض شركات القطاع الخاص على مستوى مصغر، وبعض الدول التي تأخرت بأخذ وسائل العزل وتعليق العمل، مقدمةً صحة سكانها قرباناً للاستمرار بالإنتاج حتى وقعت الكارثة فاتخذت الإجراءات المطلوبة بعد فوات الأوان.
هذه أمثلة بسيطة على الطمع وانعدام الإنسانية:
1. صحيفة "ريبوبليكا" الإيطالية كشفت أن شركة إيطالية في مدينة بريشيا في لومباردي، على بعد كيلومترات قليلة من مراكز مكافحة فيروس "كورونا"، باعت 500 ألف عبوة فحص الفايروس لأميركا وجنت عشرات ملايين الدولارات، رغم مئات الوفيات يومياً وآلاف الإصابات في إيطاليا التي باتت بؤرة الوباء بعد الصين.
2. صحيفة "داي فيلت" الألمانية قالت إن واشنطن عرضت على شركة CureVac للأدوية الحيوية، مبالغ كبيرة من المال للوصول الحصري إلى عملهم في إنتاج لقاح لفيروس كورونا يستخدم في أميركا فقط.
3. وزير التجارة التونسي، محمد المسيليني، كشف عن سرقة باخرة كانت محملة بالكحول الطبي ومتجهة إلى البلاد، وهذا يشبه واقعة سرقة التشيك لشحنة مساعدات طبية قادمة من الصين إلى إيطاليا.
4. صحيفة la Repubblica الايطالية كشفت مؤخراً إن كلاً من دولتي التشيك وألمانيا سرقت حمولة ضخمة تقدر ب110 الاف – 780 الف كمامة وقاية والآلاف من أجهزة التنفس الصناعي من مساعدات قدمتها الصين مؤخرا الى ايطاليا.
الإنسان توقع هذه الكارثة، وهو يتوقع اليوم اجتياز المحنة ليعود إلى الربح، وربما ستكون فترة ما بعد كورونا، فترة تتميز بالطمع والجشع وتمركز كبير للثروات، وزيادة بمعدلات الفقر، لمحاولة الشركات والدول الخاسرة بشكل وحشي، إعادة ما خسرته لو بالحروب القوية، ولن يكون ذلك درساً نهائياً للبشرية، التي ستواجه فيروساً أكثر قوة لاحقاً.
حازم عوض
إضافة تعليق جديد