الأصعـب مـن المـوت «في أرض الدم والعسل» لأنجلينا جولي
نأت النجمة الأميركية أنجلينا جولي، في باكورتها الإخراجية السينمائية «في أرض الدم والعسل»، عن تجزئة الجريمة التي فاضت مآسيها خلال الحرب البوسنية (1992 ـ 1995). ذهب نصّها القويّ إلى ضمير المغتصب، وحاكم إنسانيته باسم الحب. هل تصل حقاً حيوانية البشر إلى هذا القدر من الحطّ؟ يتساءل نصّ جولي طوال محنة بطلتها آيلا، التي أصابها الحظّ، فتحوّلت من «سلعة جنسية» إلى شاهدة اغتصابات وسخرة جسدية.
في الحرب، لا مكان للضمائر. في الحرب، لا حقّ للضحية في إعلان كينونتها، أو الحفاظ على قدر بسيط من حقّ بقائها على قيد الحياة، والتمسّك بدواخل خواطرها. إنها اثنان: مكان لتصويب الرصاصة اللئيمة، أو كيان يُستعبَد جسده وكرامته، قبل أن يُلغى في حفلات إعدام صاخبة بانتقاماتها. وضعت جولي هذا كلّه في حزمة من الشتيمة السياسية، على غرار ما فعلت زميلتها لاريسا كوندراكي في «المُبلّغة» (2010)، الذي استكمل صورة الاستعباد الجنسي لفتيات هُرِّبن من أوكرانيا إلى البوسنة، وأُرغِمَن على امتهان البغاء بمساعدة أطراف في الأمم المتحدة. وإذا استند هذا العمل إلى واقعة حقيقة، فإن جولي أسّست حججها على شهادات مفعمة بالوجع والمهانات لأكثر من 20 ألف امرأة تعرَّضن لاغتصابات جنسية من قِبَل قياديين وجنود صربيين («السفير»، 16 شباط 2012).
مزجت ذهنية «في أرض الدم والعسل»، كما العنوان، بين الغدر السياسي ودمويته، وذلك التآلف العرقي الذي باتت عليه الأرض اليوغوسلافية منذ فتوات تيتو الحزبية، الذين أرغموا الطوائف على تعايش إجباري، وطمأنوها إلى «عسل» الدولة القوية، التي وجد أقطابها إثر وفاة القائد، في الحرب المقبلة، لعبة لتحريك الأعراق والأرض والخرائط. هذا لا يشي بأن جولي أرادت تأريخ الحرب. فهذا لم يكن في حسبان نصّها، لأنها وضعت الفواجع الشخصية وعار أَوْغال الحرب في الواجهة. لذا، كان خيارها الصائب بتصويرها مفارقة حياتية في بداية الفيلم (126 د.)، مع لقاء الحب الذي جمع الشابة المسلمة آيلا (زانا ميريانوفيتش) والصربيّ دانييل (غوران كوستيش) في مقصف ليلي، قبل إعلان القنبلة، التي استهدفت المكان، فعل القتل. فعل التفجير (كبوسطة بيروت) تبرير لأهل السياسة لدفع العسكر إلى أتون النيران والتصفيات العرقية. تبري قاد دانييل إلى الاستجابة إلى العِرْق الظالم، والانضمام إلى حفلات القتل والاغتصابات، التي لم يشارك فيها (أو هكذا أرغمته جولي) كي يبقى معايناً حيادياً، مُحافظاً على إنسانية مضمرة، دفعته، عند لقائه حبيبته في أسرها، إلى المغامرة بـ«افتدائها» واتّخاذها «عبدة جنسية» أمام قادته ورفاقه، إبعاداً للشك. هنا، حوّلت جولي ثيمة «روميو وجولييت حرب البلقان» إلى «عسل سينمائي» ظلّ أسير الكذبة والجدران. فغرامياتهما، المصَوَّرة بإدارة دين سميلر بشكل أقرب إلى الحلم، مُضاد درامي للوحشية المتعاظمة في الخارج. ومع جلسات الاغتصابات الجماعية، تكون آيلا وسطها من دون مسّها. شاهدة بلسان مقطوع. ضحية لم يُسفك دمها بعد. ذلك أن الاستعباد الجنسي للأخريات ضُيُوم الشرف الذي تُعلّقه جولي وفيلمها على ضمائرنا جميعنا.
كذبة الثنائي آيلا ـ دانييل لن تعيش طويلا. فعزم الثاني على تسهيل هروبها ما أدّى بها الى الموت. فالرصاص لا يختار ضحاياه مسبقا، بل يُعدِّل سيرورة الشهادة لامرأة مبدعة. والفيلم قدّم بطلته فنانة تشكيلية، أدّى احترافها مع وصول جنرال عصابي (والد دانييل) ساع إلى كشف لعبة الحب التي أطالت عمر المسلمة، إلى تصفيتها. هذه الأخيرة أرغمت الحبيب، الذي أوغلت يداه في دم المعارك، إلى الاستسلام للقوات الدولية صارخاً: «أنا مجرم حرب»، كاعتراف أخذ صفة الجماعية لذنوب الموت.
نصّ جولي مباشر، وتقليدي. هدفه الوصول إلى السرائر من دون عويل سينمائي. ربما يُفسّر هذا العجالات التقنية التي صوّرت بها مشاهد المعارك، التي غاب عنها التفخيم الدرامي، مثلما شدّدت عليه في مواقع الاغتصابات.
زياد الخزاعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد